
تقود اللجنة الرباعية الدولية ، التي تضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، مع ترقُّب انضمام قطر والمملكة المتحدة، جهودًا لإنتاج تسوية سياسية تنهي النزاع في السودان، وتُمهِّد لمرحلة جديدة. وتستند هذه المبادرة إلى مقاربة سياسية فوقية، قوامها دمج مساري جدة والرباعية في صيغة موحدة، مستوحاة من تصورات غربية، يخطط لعرضها علي مجلس الأمن لاعتمادها كمرجعية دولية ملزمة. ضمن مسار يُعيد تشكيل المشهد السياسي السوداني، بمعزل عن السودانيين.
ورغم النوايا المعلنة لتحقيق السلام، تثير هذه المقاربة قلقًا كبيراً لدى قطاعات واسعة في البلاد، إذ يُنظر إليها كمسار يتجاوز الإرادة الوطنية، ويستند إلى صياغة حل جاهز ينبع من موازين ومصالح النفوذ الإقليمي والدولي.
وتزداد هذه المخاوف مع تصاعد الخطاب الإقليمي المعادي للإسلاميين، وظهور أجندات دولية تدعو إلى استبعادهم كشرط مسبق للانتقال السياسي. غير أن هذا المسار يصطدم بواقع أكثر تعقيدًا، حيث لا تزال التيارات الإسلامية في السودان تحتفظ بقاعدة اجتماعية واسعة، وتنظيم سياسي محنّك، ومهارات تكتيكية مكّنتها تاريخيًا من المناورة، والبقاء، والتكيّف مع تقلبات المشهد السياسي.
لذلك من المهم التمييز بين الموقف من الإسلاميين كحركة سياسية، وبين محاولات عزلهم كمكوّن اجتماعي له امتداداته العميقة والمتجذرة في الدولة والمجتمع.
ورغم ما يُؤخذ على الإسلاميين من أخطاء خلال تجربتهم في الحكم، إلا أنه لا يمكن إنكار أنهم لا يزالون لاعبًا مؤثرًا، ليس فقط على مستوى الإدارة والتنظيم، بل أيضًا في معركة الكرامة للدفاع عن وحدة البلاد، التي خاضها السودانيون ضد محاولات التفكيك، حيث شاركوا بفعالية – مع غيرهم – في المقاومة الشعبية وصون السيادة الوطنية.
بات الحديث عن المراجعات داخل التيار الإسلامي، وفق كثير من المراقبين، ضرورة ملحّة. وقد بدأت بالفعل محاولات لإعادة صياغة الخطاب السياسي، والتحول من الأفق الحزبي إلى مشروع وطني جامع، يقوم على إدراك حقيقي بأن زمن الانفراد قد ولي، وأن السودان لا يمكن أن يُحكم إلا بشراكة وتوافق حقيقي.
لذلك الإسلاميون اليوم أمام لحظة مفصلية: إما أن يوحدوا صفوفهم و يعيدوا تعريف دورهم كقوة مدنية منفتحة قادرة علي تطوير تجربتها، أو أن يُعاد دفعهم إلى الهامش بذرائع سبق أن أنتجت مزيدًا من الاحتقان والاستقطاب والارباك.
تزداد فرص تحوّل الإسلاميين في السودان إلى فاعل سياسي مقبول في هذه المرحلة، بفضل فهمهم العميق لتعقيدات البيئة السياسية، وامتلاكهم لمرونة تكتيكية أثبتوها في محطات متعددة. ويُعزز هذا الاحتمال النموذج السوري، حيث قاد أحمد الشرع تحوّلاً لافتًا لتيار إسلامي مسلح إلى كيان سياسي مستقر، عقد تفاهمات مع قوى إقليمية وازنة، من بينها السعودية، التي أبرمت معه مؤخرًا اتفاقًا اقتصاديًا غير مسبوق، وساهمت في إعادة تأهيله إقليميًا.
فإذا كانت جماعة ذات خلفية حادة كهذه قد تمكنت من إيجاد موطئ قدم في التوازنات الإقليمية، فإن الإسلاميين في السودان، بما يملكونه من تماسك سياسي وتنظيمي، يمتلكون فرصًا أوفر لتقديم تجربة سياسية مختلفة، متى ما أحسنوا إدارة خلافاتهم، ومراجعاتهم، وتحالفاتهم.
تمثل السعودية ومصر وقطر وتركيا في هذه المرحلة أطرافًا إقليمية مؤثرة وحليفة للسودان، وقد أبدت انفتاحًا واضحًا تجاه مسارات تُفضي إلى تسوية سياسية شاملة لا تستثني أحدًا، انطلاقًا من إدراكها لأهمية الاستقرار في السودان ضمن معادلة الأمن الإقليمي.
لذلك، فإن أي مشروع تسوية يقوم على الإقصاء، لا يعكس فقط قصر نظر سياسي، بل يهدد بنسف فرص الاستقرار ويُعيد إنتاج الصراع بصيغ أكثر تعقيدًا. إن مغادرة البلاد لمربع الحرب لا يمكن أن يتحقق إلا على أساس شراكة حقيقية تضمن الاعتراف المتبادل والتوازن في معادلات القوة والنفوذ.
الرهان الحقيقي في هذه اللحظة لا ينبغي أن يكون على إقصاء الإسلاميين أو تمكينهم وحدهم، بل على كيفية بناء نظام سياسي سوداني مستقر، يحتكم فيه الجميع لصناديق الاقتراع، ويتساوى فيه الجميع أمام القانون.
الإسلاميون كغيرهم، لا يملكون تفويضًا أبديًا، لكن لا يجوز أيضًا معاملتهم كطرف خارج السياق. إذا قدموا مراجعات صادقة، وشاركوا في بناء مشروع وطني، فإن وزنهم الجماهيري والتنظيمي كفيل بأن يجعلهم جزءً من الحل لا جزءً من الأزمة. كذلك ينبغي ان نأخذ في الاعتبار ما تمتلكه التيارات الإسلامية هو براعة تكتيكية لا يُستهان بها.
فهم يجيدون إعادة التموضع، وبناء التحالفات، والتفاعل مع المتغيرات. لذلك يظل التحدي الحقيقي هو القدرة على الخروج من عالمهم الخاص، والتفاعل مع المزاج العام الذي يُعبّر عن تطلعات شعب يريد الخروج من دوائر الفشل والإقصاء والدماء. عليه لا بد من خطاب جديد يتجاوز الأيديولوجيا نحو الواقعية الوطنية، ويخاطب الشعب بلغة إعادة الأمل.
الإسلاميون سواء اتفقنا معهم أو اختلفنا، يملكون قدرة حقيقية على تشكيل المشهد إن هم تحرروا من أوهام الماضي، ومدوا اليد نحو شراكة وطنية حقيقية. وفي المقابل، فإن الرباعية الدولية إذا أرادت تسوية قابلة للحياة، فعليها أن تتعامل مع كل القوى السودانية بواقعية ، لا أن تسعى لقصّ المشهد وفق حسابات مصالحها.
في ضوء ما نراه من #وجه_الحقيقة فإن السودان لا يحتاج إلى هندسة سياسية تُرسم في الخارج، بقدر ما يحتاج إلى إعادة بناء مشروع وطني من الداخل، يُنجزه السودانيون بأنفسهم، ويشارك فيه الجميع دون إقصاء. وهذا ما لا يتحقق إلا إذا إلتقت براعة التكتيك الإسلامي مع صدق المراجعة الوطنية، وتخلّت الرباعية عن منطق الحلول الفوقية، لصالح دعم حوار شامل لا يُقصي أحدًا ولا يستثني أحدًا.
دمتم بخير وعافية.
السبت 26 يوليو 2025م