خبـر و تحليًل – عمّـار العركـي – الهجوم على قسم شرطة القدار: خلل أمني و هشاشة مؤسسية

في ساعة متأخرة من الليل، اهتزّت مدينة دنقلا على وقع هجوم مسلح خطير استهدف قسم شرطة الغدار، أسفر عن استشهاد الشرطي محمد عثمان إمباش – نسأل الله أن يتقبله في عليين – وإصابة ثلاثة من زملائه، نسأل الله لهم الشفاء العاجل، في حادثة صادمة لمجتمعٍ كان يُعد من أكثر المجتمعات استقرارًا وأمنًا في البلاد.

هذا الاعتداء – الذي وُصف رسميًا بمحاولة فاشلة لسرقة البنك الزراعي المجاور – لم يكن مجرد حادث جنائي معزول، بل مؤشرًا خطيرًا على قصور أمني وهيكلي مركّب، يثير تساؤلات عن مستوى التحوّطات، وكفاءة الاستجابة، وحقيقة الجاهزية التي ظلت ترفعها تقارير أمنية متعددة.

وقد كان لافتًا أن تقرير النيابة العامة، الصادر مؤخرًا، لم يُشر إلى استشهاد الشرطي ولا إلى الجرحى الثلاثة، رغم مركزية هذه المعلومات في توصيف الجريمة، وتقدير فداحة الخرق، والواجب الأخلاقي نحو أسر الضحايا.

منذ لحظة وقوع الجريمة، ظللنا نترقّب بيانًا واضحًا يحسم الإشاعات ويكشف الحقائق وسط سيل من المعلومات المضللة، إلى أن صدر التقرير الذي فتح الباب لمزيد من الأسئلة حول البنية الأمنية، وتحليل الحدث، والاستعدادات على الأرض.

خلل فــي التحوطــات وتقديــر الخطــر

رغم العلم المسبق بوصول مبالغ نقدية كبيرة إلى البنك الزراعي المجاور لقسم الشرطة، لم تُتخذ أي تحوطات أمنية استباقية.

الهجوم كشف عن غياب وسائل التأمين الأساسية من كاميرات مراقبة، وخطط طوارئ، وحتى إنارة احتياطية.

كما أن التقرير النيابي كشف عن معرفة الجناة بتفاصيل دقيقة حول القسم، مما يدل على تسرّب معلومات داخلية دون ضبط، الأمر الذي أدى إلى تنفيذ الهجوم بدقة وسرعة.

تؤكد الواقعة هشاشة البنية الأمنية وعدم جاهزية الأقسام الطرفية للتعامل مع التهديدات، حتى البسيطة منها.

قصور مؤسسي وتكليف يفوق الإمكانات

من غير المنطقي أن يُكلف قسم يفتقر لأبسط مقومات العمل الأمني (عدة، عتاد، اتصالات، متحركات) بتأمين وحدة إدارية كاملة تضم قرابة ثلاثين قرية.
* القسم الذي لم ينجح في الدفاع عن نفسه، لا يمكن أن يؤمّن محيطًا واسعًا بهذا الحجم. وتتحمل الجهات العليا مسؤولية سوء التقدير في توزيع المهام والموارد.
* هذا الخلل البنيوي يتطلب مراجعة عاجلة في سياسات وزارة الداخلية بشأن: تأهيل الأقسام، توفير وسائل الاستجابة والاتصال، مع ضمان تفعيل غرف القيادة والتحكم في الولايات الطرفية.

وما زاد من تفاقم الصورة أن لجنة أمن الولاية ظلت تركّز في بياناتها على الجاهزية لمواجهة التهديدات الخارجية، متجاهلة كليًا مخاطر الداخل، رغم أنها الأقرب والأكثر احتمالًا.

عجز في تتبع الجناة وغموض في سير العدالة

تقرير النيابة لم يتطرق مطلقًا لما جرى بعد الحادثة من حيث مصير الجناة: هل تم تحديد هوياتهم؟ هل صدرت أوامر قبض؟ هل هم داخل الولاية أم فروا خارجها؟

إن الصمت في هذه النقطة الجوهرية يُضعف الثقة في مؤسسات العدالة والأمن، ويشير إلى خلل في آليات الاستجابة، حتى بعد وقوع الجريمة.

وفوق ذلك، فإن التقرير استبعد منذ البداية فرضيات خطيرة (مثل أن يكون الفعل عدائيًا أو ذا طابع منظم) رغم عدم اكتمال التحري، وهو ما يُعد خطأ تحليليًا يحدّ من توسيع دائرة الاشتباه بدلًا من فتحها، ويعكس استعجالًا غير مبرر في إصدار الأحكام.

الحاجــة إلى إصــلاح شامل في منظومـة الأمـن المحلي

إن ما كشفته حادثة الغدار لا يتعلق بجريمة واحدة فحسب، بل بمنظومة أمنية يغيب عنها التخطيط الطارئ. وضعف واضح في التنسيق بين الجهات المختصة، وانعدام وسائل الرصد والاستجابة السريعة.ث، مع ميل مؤسسي لتطمين الرأي العام على حساب المصداقية.

إن لم تتم مراجعة هذه الثغرات بشكل جذري، فإن التهديدات القادمة – حتى في مناطق تُصنّف مستقرة – ستكون أخطر وأوسع.

خلاصــة القــول ومنتهــاه :
حادثة قسم شرطة الغدار تُعد نموذجًا مصغرًا لانهيار أمني مركب، نتيجة لضعف في التحوطات، ونقص في المعدات، وخلل في تقدير المهام، تسرع في استخلاص النتائج وصمت في مواجهة الأسئلة الجوهرية.

إذا لم يتم التعامل مع هذه الحادثة باعتبارها مؤشرًا خطيرًا على اتساع دائرة الخلل الأمني والهشاشة المؤسسية فسيكون من المتوقع أن تتكرر – وربما بأشكال أعنف – في مناطق أخرى تُصنف الآن “آمنة”، لكنها تُركت مكشوفة في واقعها الأمني اليومي.

Exit mobile version