د. عبد الناصر سلم حامد
باحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب
منذ مارس 2025، وبعد تحرير الجيش السوداني العاصمة الخرطوم واستعادته السيطرة الكاملة عليها، بما يشمل الخرطوم وبحري وأم درمان، شهدت خارطة الحرب تحوّلًا استراتيجيًا أعاد رسم ملامح النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع. خروج الدعم السريع من المركز دفعه إلى إعادة تموضعه في الأطراف الغربية، خصوصًا شمال وغرب دارفور، لتثبيت نفوذه وتأمين خطوط الإمداد، مدعومًا من حلفاء إقليميين على رأسهم قوات خليفة حفتر في ليبيا.
التحول لم يقتصر على العاصمة. ففي يناير، تمكن الجيش من استعادة ولاية الجزيرة بالكامل، بما فيها ود مدني، مركز الإنتاج الزراعي، تلتها ولاية سنار. هذه الاستعادة فرضت عزلة على قوات الدعم السريع داخل مناطقها في دارفور، ما زاد من حاجتها إلى الدعم الخارجي، لا سيما من ليبيا التي باتت منفذًا خلفيًا رئيسيًا لإعادة تسليح المليشيا.
تؤكد تقارير استخباراتية وإعلامية، إلى جانب شهادات ميدانية من سكان شمال دارفور، أن قوات حفتر قدّمت دعمًا متنوعًا لقوات الدعم السريع يشمل الذخائر، الأسلحة الخفيفة، الطائرات المسيّرة، الوقود، والمرتزقة. بدأت هذه الإمدادات تتدفق بشكل ممنهج منذ أواخر 2023، وتوسعت بصورة أكبر عقب سقوط العاصمة في يد الجيش، لتتحول ليبيا من ساحة دعم غير مباشر إلى محور إسناد رئيسي للعمليات العسكرية التي تخوضها قوات حميدتي غرب السودان.
شمل الدعم نقل شحنات سلاح من الكفرة وسبها، مرورًا بالصحراء الليبية، وصولًا إلى شمال دارفور. وفي تطور لافت، سيطرت قوات الدعم السريع على معبر العوينات الحدودي في 11 يونيو 2025، ما مكّنها من تأمين ممر آمن ودائم لإمداداتها القادمة من ليبيا، دون المرور بأي نقاط مراقبة حكومية. ويمثل هذا المعبر نقطة استراتيجية حيوية تربط منطقة الكفرة جنوب شرق ليبيا بمحلية كُرِنوي شمال دارفور، ويُعد اليوم الشريان الحيوي للدعم العسكري الذي تتلقاه المليشيا.
طريق الكفرة–العوينات–دارفور هو المسار الأكثر نشاطًا، حيث تشير صور الأقمار الصناعية وتحقيقات صحفية إلى وجود قوافل شاحنات غير مرقّمة، تنقل الذخائر والوقود إلى شمال دارفور، باستخدام طرق رملية اجتازتها عربات ذات دفع رباعي. وفي بعض الحالات، جرى استخدام طائرات شحن صغيرة لنقل معدات إلكترونية وطائرات مسيّرة صينية الصنع، عبر مهابط صحراوية في مناطق معزولة جنوب ليبيا وشمال دارفور. وقد عمدت قوات الدعم السريع إلى تعبيد مدارج بدائية في مناطق نائية من شمال ووسط وجنوب دارفور، لاستخدامها كمهابط طوارئ لطائرات شحن من طراز “Antonov An-26” الروسية و”Let L-410” و”Beechcraft 1900” المعدّلة، وهي طائرات قادرة على الهبوط في مدارج قصيرة وغير مهيأة.
وتبرز قاعدة الكفرة الجوية في شرق ليبيا كأحد أهم المراكز التي استخدمت لتخزين السلاح وتدريب المرتزقة، فضلًا عن قاعدة تمنهنت الجوية شمال سبها، التي وفرت غطاءً لوجستيًا للطائرات المسيّرة، إلى جانب نشاط أقل كثافة في سبها وبراك الشاطئ. وقد أتاح هذا التمدد الجغرافي لحفتر تشغيل شبكة دعم متكاملة في العمق الليبي، تخدم قوات الدعم السريع بشكل مباشر.
وفي جانب القوة البشرية، مثّل المرتزقة العنصر الأهم في دعم قوات الدعم السريع. فقد أكدت تحقيقات استقصائية متعددة أن المليشيا جنّدت آلاف المقاتلين الأجانب من دول الجوار، على رأسها تشاد والنيجر وجمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان، تم تدريبهم داخل ليبيا، ثم نُقلوا عبر طرق صحراوية إلى دارفور. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 65% من القوة الميدانية الحالية للدعم السريع مكوّنة من مرتزقة غير سودانيين. وقد كُلّف هؤلاء بتأمين المواقع الحساسة، وتنفيذ العمليات النوعية، وتشغيل الطائرات المسيّرة.
ويشير مراقبون إلى أن الدعم المتواصل من حفتر ساهم في تمكين الدعم السريع من الصمود ميدانيًا في شمال دارفور، رغم الخسائر الكبيرة التي تكبدها في الخرطوم والجزيرة وسنار. فقد استعادت القوات المسلحة السودانية مطار نيالا، وضيّقت الخناق على محيط الفاشر، وقطعت معظم خطوط الإمداد التقليدية، ما جعل الدعم الليبي هو الحبل الأخير الذي تتشبث به المليشيا للبقاء.
ومع دخول الحرب عامها الثالث، تتجاوز خطورة هذا الدعم مجرد إسناد عسكري. فالتقاطع بين حفتر والدعم السريع يعكس مشروعًا إقليميًا أكبر لإعادة تشكيل التوازنات في غرب السودان، عبر تسليح جماعات غير نظامية، وتثبيت أمر واقع على الحدود، يهدد وحدة السودان ويخلق فراغًا أمنيًا عابرًا للحدود. هذا التحالف لا يُضعف فقط سيادة الدولة السودانية، بل يُنذر بإعادة إنتاج نماذج فاشلة رأيناها في ليبيا ومالي وتشاد، حيث تحكم السلاح والمرتزقة في مصير المجتمعات.
إن استمرار هذا المحور، دون رد إقليمي ودولي حازم، قد يُفضي إلى تثبيت حالة من الفوضى الممنهجة على حدود السودان الغربية، ويحوّل دارفور إلى منطقة حرب مزمنة تُدار بالوكالة. وإذا لم يتم تفعيل أدوات الردع، ووقف الإمدادات العسكرية عبر الحدود الليبية، فإن نيران الحرب لن تنحصر في السودان، بل ستمتد إلى عمق منطقة الساحل والصحراء، وقد تُولد أزمات لا يمكن احتواؤها لاحقًا .