بقلم: د. الهادي عبد الله أبوضفائر
ثمّة خللٌ عميق في الوعي حين يُنكر الإنسان العلاقة بين السبب والنتيجة. هذا النفي ليس فقط خروجاً عن منطق العلم، بل هو تجاوزٌ حتى لجوهر الدين نفسه، الذي يقوم على سُننٍ كونيةٍ دقيقة لا تحابي أحداً. من يزرع يحصد، ومن يهمل يُهزم، ومن يجهل يضل الطريق. غير أن عقولاً كثيرة في واقعنا السوداني تحديداً ما زالت ترفض هذا الربط الحاسم بين الفعل ونتيجته، وتلوذ بأساطير التبرير والمصادفات الغيبية، متى ما عجزت عن النقد الذاتي أو الخروج من منطقة الراحة الفكرية. ذلك الخلل في إدراك السببية هو المدخل الأوّل لكل أزماتنا في بناء الدولة، لأنَّه يصنع ذهنيّة تُفسِّر الفشل بالمؤامرة، والنجاح بالبركة، وتُغلق بذلك أبواب المراجعة، وتفتح بوّابات الكذب باسم المقدس.
ثمة مَنْ ارتدَوا عباءة الإيمان، لكنهم ما عادوا حرّاساً للحق، بل سدنةٌ للجمود. يخشون العلم الحديث لا لأنه يهدد جوهر الدين، بل لأنه يزعزع سلطان الفهم الكسول، ويُربك الراحة المزمنة في قوالب التلقين. وهكذا وُلدت ظاهرة غريبة وخطيرة الكذب بأسم العقيدة. وباسم الإعجاز، يُزوَّر العلم ليُساير الهوى، وتُستدرج الطبيعة لتقول ما لم تنطق به، وتُلوى عنق الأخلاق حتى تصير خادمة للغرض، لا شاهدة للحق. الكذب يتحوّل إلى نية طيبة، والتزوير يُروَّج له بوصفه فهلوة، ويُختزل الدين في أداة انتصار على الآخر، لا في سبيلٍ يقود إلى النور. لكن أيُّ دينٍ ذاك الذي يحتاج إلى الكذب ليبقى؟ وأيُّ عقيدةٍ تلك التي لا تجد ما يُثبت صدقها سوى الخداع؟ إنّ المقدس الذي يكذب ليحمي نفسه، يُفقِد نفسه قداسته قبل أن يفقد احترام العقل. والعقيدة التي لا تنجح في اختبار الأخلاق، لن تنجح في أي اختبار آخر.
في التجربة السودانية، كما في تجارب أخرى، شاع استخدام مصطلح التمكين في الأدبيات السياسية، لكنّ الممارسة على الأرض لم تكن تمكيناً للمجتمع، بل استحواذاً على مؤسسات الدولة، وتدجيناً للناس حتى يصبحوا امتداداً للحزب أو الجماعة. أُفرغ التمكين من مضمونه الرساليّ ليُصبح وسيلةً لإقصاء الآخر، وتدوير الولاء، وتحويل الدولة إلى جهاز إلحاقٍ جماعي. التمكين الحقيقي لا يعني السيطرة على مفاصل السلطة، بل تحرير المجتمع من الخوف، ومن الجهل، ومن التبعية. أمّا حين يُدار التمكين بأسلوب الإحالة والولاء، فإنه يصبح مشروع هيمنةٍ يتستّر بشعارات الإصلاح، ويعيد إنتاج الاستبداد تحت رايات الخلافة أو الحاكمية.
لا يُمكن سبر أغوار مأزق الدولة في السودان ما لم نغُص في القيعان المعتمة للبنية الثقافية الراسخة في العقل الجمعي، ذاك العقل الذي يعمل في منطقه الأعمق بصمتٍ كثيف، حيث لا يَفكر بل يُملى عليه. ثمّة ثلاثيّة خطِرة تسكن هذا الوعي الخفي، ثلاثيّة تشكّل العصب الخفي لأزمتنا الوجودية، العقيدة حين تُرفَع إلى مقام الهوية المطلقة، لا تُثمر سوى الإقصاء باسم القداسة، إذ تغدو الحقيقة ملكاً حصرياً لطائفة، لا ساحةً رحبة لتعدّد الرؤى. والقبيلة، هذا الملاذ الأول للانتماء، ينهض في لحظات المحن فوق الدولة، فتيرجِعنا من روح الوطن إلى جسد العشيرة، ومن وعي المواطن إلى طقوس الولاء. أما الغنيمة، فهي الفلسفة الصامتة التي تُدير دولة السلطة لا سلطة الدولة، حيث يصبح الحكم لا سُلّماً للإصلاح والمساءلة، بل مائدةً لتقسيم الامتيازات وتوريث المواقع. ومن هنا، لم يشأ من بلغ سدّة الحكم أن يحتفي بتعدّد الوجوه، بل سعى ليصبَّ الناس في قالبه، ويطبع وجدانهم على صورته. فانتشرت ثقافة التسكين لا التحفيز، واستُبدلت أسئلة النهضة بتراتيل الطاعة، وشُيِّدت منظومة ثقافة التبرير، تُبغض الشفافية، وتزدري المؤسسية،وتقصي المحاسبة كأنها رجسٌ من عمل الشيطان. هكذا تأسّس الخراب لا على فشل السياسة وحدها، بل على خيانة الوعي نفسه.
حين تنجح الثورة سياسياً، وتفشل ثقافياً، فإنّها تُمهّد الطريق للنكسة. لم تنجح الثورات السودانية المتعددة لأنّ قادتها في الغالب لم يراجعوا بنية العقل الذي كانوا يتمرّدون عليه. سقط الطاغية، لكنّ الطغيان بقي، لأنّه لم يكن فقط شخصاً، بل نمطاً ذهنيّاً جماعيّاً، يتوارثه الناس باسم الدين أو النخوة أو المصلحة أو الأمن القومي”.
كثيرًا ما يُطرح سؤال، هل لدينا اقتصاد إسلامي؟ والإجابة الدقيقة لا. ما لدينا هو معاملات إسلامية داخل نظام اقتصادي رأسمالي. الاقتصاد، كما تُعرِّفه النظم الحديثة، هو دورةٌ منتظمة: مدخلات، ومعالجة، ومخرجات، ومؤسسات تنظّم هذه الحركة. ما يُطلق عليه “النظام الاقتصادي الإسلامي، لم يتحوّل بعدُ إلى نظامٍ متكامل، بل هو إجراءات تهدف إلى تخفيف آثار الربا والظلم الاقتصادي، دون أن تمتلك نظاماً نقديًا مستقلاً. فالعملة، وهي جوهر النظام، لا تزال خاضعة لتقلبات السوق. والبنك الإسلامي لا يملك الخروج عن سياسات البنك المركزي، ولا عن النظام العالمي الذي يتحكّم في تدفّق رؤوس الأموال وسعر الفائدة والتمويل. وبالتالي، فإنّ وصف الاقتصاد الإسلامي كنظام بديل هو تسويق سابق لأوانه، وربما تضليلٌ أحياناً، لا يختلف عن التمكين الذي صار غطاءً للهيمنة. البنك ليست مؤسسة قرض حسن. هذه النظرة تُسيء إلى الفكرة الجوهرية، لأن البنك في جوهره مؤسسة تجارية تسعى للربح المنضبط، وليس جمعية خيرية. وشتّان بين معاملة فردية تُراعي النظر إلى ميسرة، وبين مؤسسة تمارس التمويل والتوظيف والاستثمار وفق قوانين السوق والحوكمة.
ما لم نُراجع المفاهيم الملتبسة، ونحرّر العقل من أغلال القداسة الزائفة، ونتجاوز التمكين المغشوش إلى التمكين الحقيقي، ونفكّك عقلية الغنيمة، وننظر إلى الاقتصاد بوصفه علماً قبل أن يكون شعاراً فلن تنهض الدولة السودانية مهما تعددت ثوراتها. فالثورة الحقيقية لا تبدأ من إسقاط الحاكم، بل من إسقاط الذهنيّة التي تُنتج الطغيان، وتُلبسه لبوس الدين، والقبيلة، والمصلحة.
abudafair@hotmail.com