أخر الأخبار

دكتور صلاح الدعاك يكتب : من رماد الموت …..تنبت الحياة

من وحي هوريشيما و ناكازاكي لنا عبره في بناء الأوطان

ة

في صباحٍ هادئ من صباحات الصيف، كانت هيروشيما تستعد ليوم عادي. النسوة في الأسواق، الأطفال يركضون نحو المدارس، والرجال منهمكون في مصانعهم الصغيرة. لم يكن في الأفق ما يوحي بأن المدينة تقف على شفير الهاوية، سوى قاذفة أمريكية واحدة تحلّق عاليًا، لا يُلقي أحد لها بالًا.

في تمام الساعة الثامنة والربع، انفجرت الشمس في السماء، لكنها لم تكن شمسًا من نور… بل من نار. كان الضوء أعمى، والحرارة خرافية. في أقل من ثانية، تبخر كل شيء على بعد كيلومترين من مركز الانفجار. أجساد اختفت، بيوت انصهرت، والمدينة التي كانت تنبض قبل دقائق أصبحت صامتة، محترقة، مغطاة بسحابة سوداء على شكل فطر عملاق. أكثر من ثمانين ألف إنسان ماتوا في اللحظة الأولى، وآلاف آخرون تبعوا بعد أيام، بسبب الحروق والإشعاع ونزيف الأعضاء.

في 9 أغسطس، تكرر المشهد ذاته في ناكازاكي. أربعون ألفًا قضوا على الفور، ومن تبقّى مات كثير منهم في صمتٍ مرير. لم تعد هناك حياة، ولا طيور، ولا أشجار، ولا حتى لون. كل شيء صار رماديًا، كأن الزمان نفسه احترق.

قال العلماء إن الأرض الملوثة إشعاعيًا لن تصلح للسكن لقرنٍ أو أكثر. وقال البعض إن المدينة ستبقى شاهدًا على نهاية الإنسانية. لكن وسط هذا الخراب، وبين الحجارة الملتوية والعظام المتفحمة، ظهرت وردة صغيرة في ربيع العام التالي. وردة وردية اللون نبتت من تربة حارقة، فأبكت من رآها. كانت تلك الزهرة البسيطة أول إعلان بأن الحياة، رغم كل شيء، لم تمت.

ببطء، بدأ من بقي حيًا في لملمة شتات المدينة. رفعوا الحطام بأيديهم العارية، صنعوا أكواخًا من الخشب، عادوا يشربون الماء من آبار ملوثة، ويأكلون فتات الأرز المجفف. أطفال فقدوا أهاليهم، نساء يدفنّ أبناءهن، رجال بوجوه محترقة يحملون حجارة البناء لا ليبنوا بيوتًا، بل ليبنوا معنىً جديدًا للوجود.

المساعدات وصلت تباعًا، أطباء من مناطق بعيدة جاؤوا حاملين ما تيسر من دواء. ثم بدأ التعليم من جديد، داخل معابد نصف مهدّمة، حيث كان الأطفال يجلسون على الأرض، يتعلمون عن الأمل بدل الحقد، وعن السلام بدل الانتقام.

مرت سنوات، وبُنيت أول مدرسة، ثم أول جامعة. أُقيم متحف للسلام في موقع الانفجار، ليس ليذكّر الناس بالدمار، بل ليذكّرهم بأنهم نهضوا منه. وأصبحت هيروشيما عاصمة للسلام العالمي، ترسل في كل مرة تجري فيها دولة تجربة نووية رسالة احتجاج، موقعة من عمدة المدينة، باسم الضحايا.

اليوم، تمشي في شوارعها، وتكاد لا تصدق أن هذا المكان كان يومًا مدينة ميتة. البنايات شاهقة، القطارات سريعة، الناس يبتسمون، والزهور تغطي الأرصفة. لكن قرب قبة السلام، يتوقف الزمن. هناك، تقف بقايا مبنى من زمن الانفجار، لم يُرمم عمدًا، ليبقى شاهدًا. لا أحد يصرخ أو يتحدث هناك، فقط صمت. صمت يشبه الصلاة.

لم تُهزم هيروشيما ولا ناكازاكي، لأن القنبلة كانت موجهة لأجسادهم، لا لأرواحهم. فقدوا كل شيء، إلا إرادتهم في أن يكون الغد مختلفًا. فاختاروا أن يبنوا لا أن ينتقموا، أن يتعلموا لا أن ينسوا، وأن يعيشوا لا أن يحقدوا.

وهكذا، من بين الرماد والدخان، لم تولد مدينة فقط، بل وُلد درس للعالم كله: أن أعظم ردّ على الحرب… هو أن تبني الحياة من جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة − 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى