خبر و تحليل – عمار العركي – إلتماس قبـل وقـوع الفـأس: مـن فشـل إدارة الحـج إلى الحاجـة لإصـلاح جهـاز المغتربيـن

▪️في الوقت الذي يزداد فيه الجدل ، وتزداد فيه الأصوات مطالبة بمحاسبة المسؤولين عن فشل إدارة موسم الحج لهذا العام، حيث تكشفت أوجه القصور والتعقيدات التي أثرت على تجربة الحُجاج ، يثار في الأفق ملفٌ لا يقل أهمية وحساسية : “ملف جهاز شؤون المغتربين وترفيعه إلى وزارة مستقلة”.
▪️قد يبدو الموضوعان منفصلين، لكنهما يعكسان وجهًا واحدًا من تحديات الإدارة العامة في الدولة ، ومدى قدرة مؤسساتنا على تحقيق الأهداف الوطنية بدون تعقيدات وزيادة الأعباء الإدارية. إن الفشل في إدارة ملفات حيوية مثل الحج والمغتربين، إنما هو إنذار واضح بضرورة مراجعة آليات العمل وإعادة ترتيب الأولويات، لضمان خدمة المواطن السوداني أينما كان، وتقليل الهدر والازدواجية.
▪️في خضم المشاورات الجارية لتشكيل الحكومة المدنية المرتقبة، طُرحت على الطاولة مجددًا مسألة ” ترفيع جهاز شؤون المغتربين إلى وزارة مستقلة”. ورغم الزخم الذي أُحيط بالمقترح، فإنه من المهم ألا يُنظر إلى الخطوة بمعزل عن ظروف الدولة المركبة، وطبيعة العلاقة المتشابكة بين “المغتربين والدولة”، وضرورة الموازنة بين “الجدوى” و “المصلحة الوطنية”.

*_السيــاق المُغيـــب :_*

▪️يُطرح الترفيع بوصفه خيارًا إصلاحيًا، بينما تغيب عن النقاش الأسئلة الجوهرية: هل المشكلة في الشكل أم في المضمون ؟ وهل الخلل في الهيكل أم في غياب الرؤية ؟ الحقيقة التي لا مفر منها هي “أن نجاح أي صيغة للتعاطي مع المغتربين – وزارة أو جهاز – مرهون بعامل أساسي : شكل وطبيعة العلاقة بين الدولة السودانية والدول التي يقيم فيها المغتربون”
▪️فما فائدة وزارة لا يُعترف بها دبلوماسيًا، ولا تمتلك أدوات سيادية للعمل خارج نطاق السفارات و القنصليات؟ وما الفائدة من ترفيع يضيف عبئًا إداريًا وماليًا دون ضمان تحقيق الأهداف الإستراتيجية التي أنشئ الجهاز من أجلها؟

*_السفــارات هي الواجهـــة… والجهــاز هــو المعبــر:_*

▪️لا يمكن القفز فوق حقيقة أن السفارات والقنصليات تظل الجسر القانوني والدبلوماسي والوظيفي الأول الذي يربط الدولة السودانية بالمغتربين. وهي من يُناط بها تنفيذ السياسات المتعلقة بهم، وتمثيل مصالحهم، والتعامل مع القوانين المحلية في الدول المضيفة.
▪️أما جهاز شؤون المغتربين، فهو حلقة تنفيذية واستشارية داخل الدولة، وليست له سلطة مباشرة على السفارات، ولن يمنحه الترفيع تلك الصلاحية أصلاً ، طالما أنه سيبقى خارج الإطار الدبلوماسي والتمثيلي المعترف به دوليًا.

*_الحسابــات الاقتصاديــة… رؤيــة قاصـرة و مبتورة:_*

▪️يروج البعض لفكرة الترفيع من زاوية اقتصادية بحتة، استنادًا إلى ما يمكن أن تجلبه الوزارة من تحويلات إجبارية ورسوم وشراكات. لكن هذه النظرة تُجرد المغترب من كونه إنسانًا مواطنًا، لا مجرد محفظة مالية متنقلة. كما أنها تغفل أن التحفيز الإيجابي، لا الإلزام الإجباري، هو السبيل الوحيد لضمان استدامة مساهمة المغترب في الاقتصاد الوطني.
▪️والمغترب، في حقيقته، ليس مجرد حساب مصرفي متنقل أو مشروع دعم اقتصادي دائم، بل له شؤون متعددة: هجرية ، اجتماعية، صحية، تعليمية، وثقافية. كما أنه يُمثل دبلوماسيًا شعبيًا فاعلًا يسهم في تطوير العلاقات بين السودان ودول الإقامة. ومع ذلك، لم تأخذ هذه الأبعاد المتنوعة مكانها في الطرح الوزاري الذي تم الترويج له، وكأن المغترب لا يُرى إلا من نافذة الجباية والتحصيل!
▪️بل إن ترفيع الجهاز لأغراض الجباية والضرائب وفوائد التحويلات البنكية، يتناقض صراحة مع المبادئ التي أعلنها رئيس الوزراء د. كامل، حين قال إن حكومته جاءت لتخدم المواطن وتخفف معاناته. والمغتربون – وهم الجنود المجهولون في سنوات الحرب – كانوا، بعد الله، هم الداعم والمغيث والمورد الوحيد لمئات الآلاف، بل الملايين من الأسر السودانية. وفي موقف كهذا، كان الأجدر تكريمهم، إعفاؤهم، أو على الأقل تخفيف الرسوم عنهم لعامين قادمين، لا تحميلهم كلفة هيكل جديد لا طائل منه سوى الشكل والمجاملات.

*_الخيـــار الأفضــل: إعادة الهيكلة تحت إشراف الرئاسة والخارجية_*

▪️ما يحتاجه ملف المغتربين ليس “وزارة”، بل إرادة سياسية واضحة، وهيكل مرن وفعال، وتنسيق دائم مع وزارة الخارجية. والأجدى – والأكثر فاعلية – هو الإبقاء على جهاز المغتربين تحت إشراف مباشر من رئيس الوزراء ووزارة الخارجية، مع مراجعة شاملة لهياكله وأدواره وصلاحياته وربطه مباشرة بصنّاع القرار.
▪️هذا الخيار يحقق عدة أهداف دفعة واحدة منها: خفض التكلفة الإدارية و المالية في مرحلة حرجة ويضمن التناغم الكامل مع السفارات والقنصليات خارجياً دون خلق جسم وزاري موازٍ قد يتضارب مع وزارة الخارجية أو يفتح أبواب المحاصصة، مع تأمين رؤية استراتيجية موحدة تُراعي مصالح الدولة والمغتربين في آن واحد.

*_خلاصـــة القـــول ومنتهـــاه_ :*

▪️لا نحتاج لوزارة من أجل المغترب، بل نحتاج لدولة تفهمه وتحترمه وتُحسن خدمته. الترفيع ليس حلاً، بل قد يكون قفزة في الظلام تدفع ثمنها الحكومة المرتقبة من رصيد ثقة المغتربين، ومن موارد دولة لا تحتمل العبء.
▪️نعـم، نريد مغتربًا حاضرًا في القرار، مشاركًا في التنمية، وفاعلًا في السياسات، لكن ليس عبر ترفيع شكلي، بل من خلال بناء سياسات رشيدة تتكامل فيها الأدوار، ويُراعى فيها أن كل شأن خارجي هو امتداد لعلاقاتنا الدولية، لا لرغباتنا المحلية.
▪️فلا تجعلوا المغترب ضحيـة المجـاملات، ولا جهازه بابًا للمحاصصـة، ولا تجعلوا التكريم الذي يستحقه يتحوّل إلى فاتورة جديدة يُطالَب بسدادها!
من أجل مغتربٍ… لا وزارة!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة عشر − ثلاثة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى