
تواصل الأحداث الإثيوبية تسارعها بوتيرة لافتة، وتشكّل في مجملها صورة دراماتيكية لمشهد داخلي مأزوم ومتصدّع ينعكس بالضرورة على سياسات أديس أبابا تجاه جوارها الإقليمي، خاصة السودان وإريتريا.
فبعد زيارة الوفد الإثيوبي رفيع المستوى إلى الخرطوم ، التي أثارت تكهنات عديدة بشأن رسائلها الخفية ودلالاتها الاستراتيجية، تلاها على الفور تصعيد لافت من أديس أبابا تجاه أسمرا، ثم تفجّر المشهد أكثر مع انشقاق ستة من كبار جنرالات الجيش الإثيوبي – جميعهم من قومية الأمهرا – في لحظة فارقة تهزّ تماسك المؤسسة العسكرية الإثيوبية.
تزامن كل هذا مع خطوة دبلوماسية سودانية مهمة، تمثلت في رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي مع إريتريا وتسمية السفير “أسامة عبدالباري” سفيرًا لدى أسمرا، بعد أن ظل المنصب شاغرًا لسنوات ويُدار عبر قائم بالأعمال.
▪️فما دلالة هذه التحركات؟ وما علاقة الخرطوم بكل هذا الاشتباك الإثيوبي – الإريتري؟ وهل نحن أمام تصدّع استراتيجي في المحور الإثيوبي – الأمهرى – الإريتري، كانت الخرطوم إحدى ساحاته؟
*تحالـف آبـي أحمد – الأمهــرا بـدأ يتآكـل*
الانشقاق الأخير لم يكن حدثًا معزولًا. فالجنرالات الستة المنشقون ليسوا مجرد أسماء عسكرية؛ بل هم أعمدة أساسية في حرب آبي أحمد على جبهة تيغراي، ومن أبرز وجوه التحالف العسكري والسياسي بين رئيس الوزراء وقومية الأمهرا. بل إنهم خاضوا الحرب الأخيرة إلى جانب الجيش الإريتري ضد تيغراي!
لكن مع مرور الوقت، بدا أن الثقة بين آبي أحمد وحلفائه الأمهرا تهتز، خاصة مع تصاعد خطاب القومية الأورومية، وتهميش قيادات الأمهرا في المشهد السياسي والمؤسسي، تقارب ابي احمد وابرامه اتفاق سلام مع تيار “قيتاشوا رضا” المنشق من التقراي. *_مؤشرات مبكرة على تصدّع التحالف
الانشقاق العسكري الذي انفجر مؤخرًا ليس إلا نتيجة لمسار بدأ منذ سنوات، وتحديدًا في يوليو 2024، حين أعلن الجنرال “تيفيرا مامو” – مؤسس قوات “فانو” الخاصة بقومية الأمهرا – انضمامه علنًا إلى الجبهة الأمهرية المعارضة التي تخوض تمردًا مسلحًا ضد حكومة آبي أحمد.
“مامو”، الذي خدم في الجيش الإثيوبي أكثر من 42 عامًا، قالها بوضوح في رسالة مصورة: “اخترت الوقوف مع شعبي الأمهرا الذي يتعرض للتصفية العرقية.” تلك كانت الطلقة الأولى في معركة الشك داخل قومية الأمهرا تجاه شريكهم السياسي والعسكري، آبي أحمد.
ما نشهده اليوم من انشقاق الجنرالات الستة، إذًا، ليس إلا المرحلة الثانية من هذا الانفجار الداخلي الذي ظل يتوسع تحت السطح، حتى بات اليوم علنيًا ومزلزلًا.
التصعيد ضد إريتريا.. مناورة هروب إلى الأمام_؟
في توقيت مشبوه، وبعد عامين من صمت رسمي، خرجت أديس أبابا تتهم أسمرا باحتلال أراضٍ إثيوبية! السفير دينا مفتي، أحد أذرع الخارجية الإثيوبية، دعا المجتمع الدولي للضغط على إريتريا للانسحاب من “أراضٍ إثيوبية محتلة”، ووجّه هجومًا حادًا للرئيس الإريتري أسياس أفورقي، متهمًا إياه بإشعال الفتن ودعم جماعات مسلحة.
هذه التصريحات تكشف عن محاولة التفاف سياسية تهدف إلى: حشد الداخل الإثيوبي خلف خطر خارجي وهمي (إريتريا)، خلط الأوراق في تيغراي، ومنع أي تقارب بين الجبهة الشعبية والإريتريين، مغازلة القوى الغربية عبر تقديم أسمرا كتهديد للاستقرار
لكن هذا التصعيد يكشف في حقيقته عن ارتباك استراتيجي إثيوبي داخلي، يحاول آبي أحمد تصديره إلى الخارج بدل معالجته في الداخل.
السودان يقرأ المشهد.. ويتحرّك بهدوء
في هذا السياق المتشابك، يبدو أن الخرطوم التقطت الإشارات المتضاربة من أديس أبابا، وتتعامل معها بذكاء استراتيجي، كما ظهر في:
استضافة الوفد الإثيوبي مع إبقاء سقف اللقاءات عند مستوى نائب رئيس مجلس السيادة
الامتناع عن إصدار بيانات سياسية أو إعلان اتفاقات
التحرك بهدوء في اتجاه أسمرا، عبر رفع التمثيل الدبلوماسي وتسمية السفير “اسامه عبدالبارى “رسمياٍ بعد سنوات من الجمود، ولقاء الأخير بالسيد رئيس مجلس السيادة الفريق اول عبدالفتاح البرهان، والذى حمله وصايا وتوجيهات صريحة تتعلق ” بأهمية العلاقة مع اريتريا وترقيتها وتعزيزها، بما يسهم ويعزز المصالح المشتركة، والعمل على بناء علاقات تعاون تخدم الأهداف والمصالح الوطنية العليا للسودان خلال المرحلة المقبلة).
هذه الخطوات تمثّل توازنًا دقيقًا في العلاقات، وتبعث برسائل واضحة لكل من أديس وأسمرا بأن الخرطوم تتحرك وفق مصالحها، وليس وفق محاور أو تحالفات مضطربة.
خلاصـــة القــــول ومنتهـــاه_ :
الوضع في إثيوبيا اليوم لا يخصها وحدها. إنه زلزال سياسي – أمني – اجتماعي داخل دولة جوار رئيسية. وكل تصدّع في الداخل الإثيوبي ينعكس مباشرة على توازنات القرن الإفريقي، والسودان في قلب هذه التوازنات.
وهنا، فإن الحذر الاستراتيجي الذي تبديه الخرطوم مطلوب، لكنه يجب أن يُرفق بـ:
قراءة دقيقة لمآلات التحولات داخل إثيوبيا، وبناء شبكة تواصل رصينة مع مكونات المشهد الإثيوبي (تيغراي – أمهرا – أورومو) ، معوتقوية الحضور الدبلوماسي والسياسي مع إريتريا دون استفزاز مباشر لأديس أبابا
‘إثيوبيا” تشتعل من الداخل.. والسودان عليه أن يظل بعيدًا عن اللهب، علي ان يكون حاضرًا في صياغة ترتيبات ما بعد الحريق.