
وهي نصّ أدبي طويل، كُتب من القلب، وفاءً وعرفانًا لأرواح الشهداء الذين ارتقوا في معارك الدفاع عن الكرامة والسيادة الوطنية، وعلى رأسهم الشهيد القائد اللواء إيهاب محمد يوسف.
هذه القصيدة ليست تأبينًا فقط، بل محاولة صادقة لتوثيق لحظة وطنية سامية بلغة أدبية حية، ومناشدة وجدانية بأن نُبقي ذكراهم حاضرة في الوعي العام، لا في المناسبات فقط، بل في روح كل جيل قادم.
وتفضلوا بقبول فائق التقدير والاحترام،
دكتور : عبدالناصر سلم حامد
مرثية في شهداء الكرامة
وفي طليعتهم اللواء ركن مهندس إيهاب محمد يوسف
في وطنٍ لم تُكتب له الراحة بعد، وفي زمنٍ تتكالب عليه الرياح من كل صوب،
خرجوا من بيوتهم كما يخرج الضوء من آخر النفق.
لم يسألوا: “هل يستحق؟”
بل قالوا: “إن لم نكن نحن، فمن يكون؟”
كانوا رجالاً من طينة مختلفة.
يحملون همّ الوطن في جيوبهم،
وفي عيونهم خرائط لا يراها غيرهم،
وفي صدورهم إيمانٌ عميق، لا يهتزّ، لا يتراجع، لا يخاف.
ومن بينهم، من قاد ولم يتأخر، من خطّ الأرض بخطاه،
كان الشهيد اللواء ركن مهندس إيهاب محمد يوسف.
رجلٌ عرفه الميدان أكثر مما عرفه المنبر،
ولم يتحدث عن البطولة… بل عاشها.
لم يُطالب بالتقدير، لأنه اعتاد أن يعطي دون شرط.
لم يكن سعيه مجدًا شخصيًا، بل خلاصًا عامًا.
كل خطوة في مسيرته كانت تقول: “أنا هنا لأجلهم، لا لأجلي.”
إيهاب لم يكن شهيدًا عابرًا.
كان صورة كاملة للضابط الإنسان،
المهندس الذي يعرف أن البناء لا يكون إلا على أساس من الكرامة،
والقائد الذي يعرف أن القيادة ليست صوتًا مرتفعًا،
بل صدرٌ واسع، وكتفٌ لا ينكسر.
يُقال إنه، في فجر يوم الجمعة،
خرج من آخر صلاة كمن ودّع الدنيا برضا.
ابتسم لأحد جنوده، وترك وصية قصيرة:
“خلّوا الراية واقفة، حتى لو وقعنا كلنا.”
ثم مضى… بعقله الهادئ، وعزيمته التي لا تُكسر،
ورجع جسدًا، وروحًا ارتفعت إلى ما فوق السماء.
واختاره الله في الجمعة…
اليوم الذي يُرفع فيه العمل،
ويُفتح فيه باب الجنة للشهداء.
وكأن السماء رتّبت اللقاء كما يليق برجالٍ أوفوا،
فاستحقوا أن يكون الوداع في يومٍ ليس ككل الأيام.
لكن إيهاب… لم يكن وحده.
كان واحدًا من كوكبة من الرجال الذين حملوا اسم الوطن على أكتافهم،
شهداء حرب الكرامة…
الذين لم تُكتب قصصهم كاملة،
لكن كل منهم سطر صفحة خالدة في وجدان الأرض.
جنود وضباط، كبار وصغار،
من المدن والقرى، من النيل إلى الجبال،
سقطوا لا وهم يهربون… بل وهم يتقدّمون.
لم يخرجوا للحرب كي يدوّنوا أسمائهم في قائمة الشهداء،
بل لأنهم رأوا أن الدفاع عن الكرامة لا يُؤجّل،
وأن الصمت في بعض اللحظات خيانة،
وأنّ الوطن يُبنى بسواعد حقيقية… لا بكلام منمّق.
نرثيهم لا من باب العزاء، بل من باب الامتنان.
لأنهم منحونا شيئًا لا يُقدّر بثمن:
معنى أن يكون الإنسان مستعدًا لأن يذهب لأقصى نقطة،
فقط ليحمي فكرة.
أن يموت… لكي يعيش غيره مرفوع الرأس.
كلٌّ منهم كان له حلم صغير مؤجل،
طفل ينتظر عودته، رسالة لم تُفتح،
ضحكة كانت في الطريق،
وحياة… قرر أن يؤجلها،
إلى ما بعد انتصار الوطن.
كلٌّ منهم له أمٌّ ما زالت تحتفظ بصورته في صدرها،
زوجة لا تزال تراه في تفاصيل الغرفة،
أبناء يسألون عنه،
وأصدقاء يحاولون تصديق أن “الخبر” صار واقعًا.
لكن أرواحهم…
ما زالت تسري في عروق هذا البلد.
في الشوارع، في المدارس، في نشيد الصباح،
وفي نبض كل من قرّر أن يكون نقيًا في زمن الرماد.
يا إيهاب…
لم تكن شخصًا فقط، بل موقفًا.
كنت جزءًا من خارطة الوطن،
ولحظة فقدك ليست مجرد فقد…
بل علامة فارقة،
تُذكّرنا بأن الرجال العظام لا يختفون، بل يتركون ظلًّا لا يُمحى.
ويا أيها الشهداء جميعًا…
أنتم الضوء الذي يسبق النشيد،
وأنتم آخر ما نتمسك به حين تشتدّ العتمة.
نمتم في الأرض،
وارتفعت أرواحكم،
لكنكم لم ترحلوا.
سنظل نذكركم لا كأسماءٍ نُقشت على الجدران،
بل كنبضٍ حيّ، وكوصايا لم تُنس،
كأنفاس في هواء هذا الوطن،
وكوجوه لا تنطفئ في الذاكرة.
نعاهدكم أن تبقى رايتكم مرفوعة،
وأن نظل كما أردتم… صامدين، صادقين، واثقين.
نحمل إرثكم في ضمائرنا،
ونُخبر به أبناءنا، لا بكاءً… بل فخرًا.
رحم الله إيهاب…
ورحم كل شهيدٍ من شهداء الكرامة.
وجعل قبورهم رياضًا من جنّته،
ومقامهم في أعلى علّيّين،
مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
وحسن أولئك رفيقًا.
نعم، رحلوا.
لكنهم لم يتركوا فراغًا، بل تركوا وصايا.
لم يغادروا كالهاربين، بل كمن أوصل الرسالة ومضى.
يا إيهاب، ويا من ارتقوا معك في ملحمة الكرامة،
أنتم لستم في عداد الراحلين… أنتم في صفوف القادمين من الغيب،
الذين يمنحوننا القوة حين تخور عزائمنا،
ويذكّروننا أن المعركة ليست فقط بالسلاح، بل بالإيمان.
سنذكركم في كل صباح،
في كل نشيد،
وفي كل مرة نختار فيها الكرامة بدل الخنوع،
والحق بدل التسوية، والوطن بدل المصلحة.
سنربّي أبناءنا على صوركم لا كأبطال ماتوا،
بل كرجالٍ أحبوا وطنهم حتى النهاية،
واختاروا أن يكتبوا أسماءهم في صفحة المجد.
وإننا لا نرثيكم فقط،
بل نعدكم… أن نبقى حيث تركتمونا.
أشدّ صلابة، أصدق عهدًا، وأكثر إيمانًا بقضية تستحق.
لأنكم سقطتم وقوفًا…
سنظل واقفين.
ولأنكم عبرتم إلى الخلود من بوابة التضحية…
لن نُخلف العهد.
ولأن هذا الوطن كُتب بالدم لا بالحبر…
سينتصر الوطن
د.عبدالناصر سلم حامد سلم
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان في فوكس