خبر و تحليل – عمار العركي – التحليل الرغائبي المُوجّه: أماني الطويل وعثمان ميرغني نموذجاً

في سياق الحملة الأميركية المتصاعدة على السودان، تظهر في الساحة الإعلامية والفكرية مجموعة من التحليلات التي تبدو في ظاهرها متماسكة، لكنها في جوهرها لا تعدو أن تكون نتاجًا لـ”تحليل رغائبي” موجَّه، يخدم أجندات خارجية عبر أدوات ناعمة أحياناً، وساذجة في أحيان أخرى.

النموذجان الأبرز لهذا النوع من التحليل هما الصحفي عثمان ميرغني والباحثة المصرية أماني الطويل. كلاهما يقدّم قراءات متحيّزة، تسعى لتقويض صورة الجيش السوداني، وإنْ اختلفت أدواتهما ومساراتهما.

أولاً: عثمان ميرغني… التحليل الرغائبي المغلّف بالتغبيش

منذ قبل إندلاع الحرب، تبنى عثمان ميرغني خطابًا يفتقر للثبات المنهجي والموقف المتماسك. لا يمكن للمتابع إلا أن يلحظ التناقض الواضح في تحليلاته، وارتباكه المستمر بين محاولات تقديم “موقف موضوعي”، وبين انحيازاته الواضحة للمعسكر المناوئ للمكون العسكرى ، ثم للجيش السوداني.

يُعرف بحضوره المتكرر في استوديوهات القاهرة ، التي بها عدد من مكاتب القنوات الفضائية ذات التوجهات السياسية المعروفة، حيث يقدّم قراءاته وتحليلاته التي كثيرًا ما تعكس خط تلك المنصات الإعلامية. ولعل المتابع لمداخلاته يلحظ التناقض والارتباك في مواقفه، وهو ما يعكس سعيًا دائمًا لتلبية متطلبات هذه الوسائط الإعلامية، في انسجام مع نزعات ذاتية لدى عثمان ميرغني تتطلع إلى التأثير والتصدر، رغم افتقاده لأدوات التحليل المهني القائم على المنهجية والموضوعية والاستناد إلى المعطيات، لا على الرغبات والانطباعات الشخصية.

واحدة من أبرز تجليات هذا النهج الرغائبي، دفاعه المستميت عن مبارك الفاضل ، متجاوزًا سجل الرجل المعروف والمتقلّب في الساحة السودانية، متغافلاً عن الحقائق الموثّقة والموثوقة. هذا الدفاع لم يكن بهدف توضيح وجهة نظر مغايرة، بل كان امتدادًا لحالة الإنكار والتبرير التي يعيشها عثمان، في سعيه الدائم لتقديم من ينسجمون مع رؤيته كمخلصين، ولو خالفهم التاريخ والواقع.

والمفارقة أن “مبارك الفاضل” نفسه كان في قلب الاتهامات التي أُثيرت في أعقاب واقعة قصف مصنع الشفاء في الخرطوم عام 1998، وهي الواقعة التي تستدل بها أماني الطويل في معرض التشكيك بالمزاعم الأميركية ضد الجيش السوداني. فالمعلومات التي قادت إلى قصف المصنع نُسبت حينها لمصادر سودانية معارضة، وكان اسم مبارك ضمن من وُجهت لهم أصابع الاتهام بتوفير المعلومات والمساعدة في التنفيذ. ومع ذلك، يتجاهل عثمان هذا التاريخ المثبّت، ليقدمه اليوم كصوت يُعوّل عليه في الحديث عن مستقبل السودان.

ثانيــاً: أماني الطويل… التحليل الرغائبي المقنّع

بالمقابل، تمارس الدكتورة أماني الطويل ذات الفعل، ولكن بأدوات أكثر ذكاءً. تحليلها المنشور مؤخرًا بشأن اتهام الجيش السوداني باستخدام الأسلحة الكيماوية لا يخرج عن هذا الإطار. ورغم أنها استخدمت لغة هادئة وأسلوبًا يبدو أكاديميًا، فإن مضمون المقال يعيد إنتاج سردية استخبارية أميركية لم تخضع للتحقق المستقل، بل ويبرّر غياب الشفافية حولها.
في مقالتها، لم تسعَ الطويل إلى تفنيد أو مساءلة المعلومات الاستخبارية الغامضة، بل قامت بإعادة تدويرها كاحتمالات معقولة، رغم أن الذاكرة السودانية – كما أشارت بنفسها – ما زالت مثقلة بتجربة ضرب مصنع الشفاء. لكنها، بدلاً من تحويل هذا الاستدعاء إلى أساس للتشكيك أو المساءلة، استغلته لتلميع الموقف الأميركي من حيث الشكل دون المساس بجوهره، ما يؤكد أنها تسوّق سردية جاهزة تحت غطاء أكاديمي وتحليلي مخاتل.

واللافت هنا أن الطويل تجاهلت السياق الكامل للواقعة التي استدلت بها، إذ لم تشر إلى الدور المشبوه الذي لعبته بعض الشخصيات السودانية المعارضة – ومنهم مبارك الفاضل – في تسريب معلومات أدت إلى القصف، وهي معلومة محورية تُضعف منطقها وتُربك استدلالها، لكنها آثرت أن تقفز عليها ضمن أسلوبها الانتقائي المعروف.

ثالثــاً: تشابه المنهج واختلاف الأدوات

الجامع بين ميرغني والطويل هو اعتماد الرغبة الشخصية أو الوظيفية في التأثير على حساب الحقيقة، لكن اختلاف أدواتهما يُظهر مدى تنوّع آليات التحليل الرغائبي. عثمان يتوسل العاطفة، والنزعة الذاتية، ومجاراة المزاج الإعلامي في استوديوهات القاهرة. أما أماني الطويل، فتعتمد الهدوء والمفردة الأكاديمية، لكنها توظفها في إطار يخدم السردية الأميركية، وإن ادّعت الحياد.

كلاهما يفتقران إلى أدوات التحليل الرصين القائم على التحقق والتوثيق، وينطلقان من رغبة مسبقة في إثبات فرضية، لا في اختبارها. الأول يعاني من نرجسية التأثير وسوء التقدير، والثانية تمارس التحليل المؤدلج تحت مظلة مؤسسات بحثية باتت جزءًا من أدوات الضغط السياسي الأميركي في المنطقة.

خلاصـــة القـــول ومنتهــاه

في اللحظة الراهنة التي يعيشها السودان، تصبح مسؤولية التحليل المهني والوطني أكبر من أي وقت مضى. لا يكفي أن نمتلك المعلومة، بل يجب أن نمتلك النزاهة في توظيفها، والموضوعية في استخلاص دلالاتها. أما التحليل الرغائبي – سواء جاءنا من داخل المنظومة الإعلامية أو من خارجها – فلا يسهم إلا في تشويش الرؤية وزيادة تعقيد المشهد.

وما بين تغبيش عثمان العاطفي وتجميل أماني الأكاديمي، تتبدد الحقيقة وتتراجع المصداقية، ويتحول التحليل من أداة للفهم إلى وسيلة للتحشيد والتزييف.

Exit mobile version