أخر الأخبار

خبر وتحليل – عمار العركي – ظاهرة تمجيد القيادات والتطبيل: “المفضَّل” في زمن التفضيل العليل

في زمن الأزمات والفراغ المؤسسي، تتفاقم ظاهرة تمجيد القيادات وتضخيم أدوارهم، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين، وزراء أو ولاة، قادة جبهات أو مديري إدارات. وهي ظاهرة قد تُغفر أو تُتَفَهَّم – ولو جزئيًا – في سياق التعبير عن الامتنان أو البحث عن رموز للثقة وسط الركام.

لكن ما لا يُغتفر، وما يستوجب دق ناقوس التنبيه، هو انزلاق هذه الظاهرة إلى داخل منظومة الأمن القومي، وتحديدًا إلى جهاز المخابرات العامة، ذلك الجهاز الذي يُفترض أن يعمل في صمت، وأن يُحمى من الأضواء لا أن يُدفع نحوها. فحين تتحوّل أدوات المناعة الوطنية إلى عناوين استهلاك إعلامي، تصبح النوايا الحسنة وحدها غير كافية، بل وقد تُنتج أضرارًا يصعب تداركها.

لقد ملأت وسائط الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مقالات وتصريحات مشبعة بمديح وشكر وثناء للفريق أول أحمد إبراهيم مفضل، مدير جهاز المخابرات العامة، في محاولة – قد تكون بريئة في نيتها – للتعبير عن الامتنان لدوره المهني والوطني في زمن الحرب.

لكن هذا التناول، مهما حَسُن مقصده، يُخالف بديهيات العمل الاستخباري، ويسيء – من حيث لا يدري – إلى جوهر الدور الذي تؤديه الأجهزة السيادية. رجال المخابرات، بطبيعتهم ومهنيتهم، ليسوا كغيرهم من قادة الدولة من وزراء أو مسؤولين تنفيذيين يتطلب دورهم الظهور الإعلامي أو الترويج السياسي. بل هم، بحكم الدور والوظيفة، يعملون في الظلال ويتحاشون الأضواء. الأضواء، فهي ليس طرايقهم، ولا تُنير طُرقهم ، بل تعرقلها.

أما حين يُنسب كل أداء وعطاء جهاز عريق كجهاز المخابرات العامة إلى القائد وحده، دون ذكر زملائه من النواب والمساعدين والمنتسبين، فإن الضرر المعنوي يمتد ليصيب الروح الجماعية للمؤسسة، ويزرع شيئًا من الامتعاض الصامت لدى من يضحون في الخفاء. والأسوأ، أن من يُشاد به قد يشعر بالحرج من.نفسه وزملائه ، ويتملكه الضيق من الجهة التي تسببت في وضعه موضع “البطل الأوحد”، بينما يعلم هو قبل غيره أن العمل الاستخباري جماعي بطبعه، ومتكامل في أدواته، ويستند إلى منظومة لا إلى فرد.

وكنموذج من عشرات الأمثلة، تبرز عناوين مثيرة مثل: ” المفضل في زمن الحرب: رجل الدولة حين غابت الدولة”. عنوان كهذا – بصرف النظر عن النية – يحمل في طياته من التناقض والحرج ما يُربك المعنى قبل أن يربك الواقع. فإن كانت الدولة غائبة كما يقول العنوان، فهل من المنطقي أن يُختزل حضورها في شخص واحد؟ وهل وظيفة مدير المخابرات هي أن “يُعيد الدولة” أم أن يحمي ما تبقى منها في صمت وفاعلية؟ إن هذه المبالغات ليست سوى ترجمة أخرى لـ”التفضيل العليل”، الذي يفتك بالمؤسسية، ويخلّ بميزان التقدير الواعي.

*خلاصــة القــول ومنتهـاه:*
فريضة حماية الأمن القومي مفضّلة – بل مُقدَّمة – على سنة مدح من يقوم بدور الحامي، حين يكون ذلك المدح غير مدرك لحساسية السياق، ولا واعيًا لأدبيات الظل التي تحكم عمل الأجهزة السيادية. فلنراعي قبل أي تناول إعلامي أو تحليلي هذا المبدأ الحاكم، خاصة إذا كان التناول يمسّ جهاز الحماية والمناعة أو أفراده ومنتسبيه.

وكرسالة مباشرة للسيد الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل، ودائرته الإعلامية المتخصصة والمدركة، فإننا نُقدّر ما تقومون به في صمت وفاعلية، ونثق أنكم أحرص من غيركم على ترسيخ تقاليد المهنية الراسخة في العمل الاستخباري، والتي تجعل من الظلال ساحة أداء، لا منابر مديح. وإن التوجيه بضبط هذا المسار، ومنع اندفاعات التمجيد المفرط، سيكون من صميم الحكمة القيادية التي تعرف أن أعظم ما يُقدَّم هو ما لا يُقال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى