حافظ يوسف يكتب : جبريل إبراهيم : حارس الاقتصاد في زمن الانهيار

بقلم : حافظ يوسف

في مشهد سوداني تتقاذفه رياح الحرب وتنهشه أزمات متلاحقة ، وسط بلد تتهاوى أركانه السياسية والاقتصادية ، لمع اسم الدكتور جبريل إبراهيم، وزير المالية ورئيس حركة العدل والمساواة ، كواحد من القلائل الذين واجهوا العاصفة لا هروبًا منها ، بل صمودًا في وجهها . رجلٌ تحمّل عبء المسؤولية في أكثر اللحظات سوداوية في تاريخ السودان الحديث ، فكان حضوره بمثابة بارقة أمل في زمن يندر فيه الإنصاف وتُستباح فيه الحقيقة .

حين تسلم جبريل حقيبة المالية ، كان السودان ينزلق نحو هاوية لا قاع لها ؛ دولة شبه منهارة ، مواردها نُهبت أو عُطلت ، وخزينتها خاوية ، ومؤسساتها محطمة بفعل حرب ضروس أشعلتها قوات الدعم السريع منذ أبريل 2023 . لم يكن هناك متسعٌ للإصلاحات التدريجية أو الخطط المتأنية، بل معركة يومية من أجل البقاء . ومع ذلك ، استطاع الرجل ، بخبرته العميقة ورؤيته الواضحة ، أن يُبقي قلب الدولة نابضًا ، ولو بصعوبة .

جبريل لم يختر الخطاب العاطفي ولا الشعارات الفارغة ، بل مضى في طريق شائك ، متسلحًا بالصبر والعقلانية . في صمت العارف، أدار أزمة هيكلية لا مثيل لها ، متجاوزًا غياب الإيرادات وتآكل المؤسسات ، ومواجهًا ضغوطًا سياسية وإعلامية شرسة . رفض الاستعراض ، واختار العمل في الظل، متكئًا على إدارة دقيقة لما تبقى من مقدرات الدولة . وبفضل سياساته ، استمرت المرتبات تُدفع ، والخدمات الأساسية تُقدَّم ، وسعر الصرف – ولو نسبيًا – ظل متماسكًا ، رغم الانهيار شبه التام .

مقابلته الأخيرة مع قناة الجزيرة كانت لحظة فارقة ؛ إذ ظهر أمام الملايين كخبير اقتصادي لا مجرد سياسي ، يُحلل الأزمات بلغة هادئة ، دقيقة ، خالية من الارتباك والتبرير . أثارت المقابلة إعجاب الجمهور ، حتى من بين من لا يشاطرونه الرأي السياسي ، إذ لمسوا فيه نبرة مسؤولية ووضوح قلّ نظيرهما في المشهد السوداني المعاصر .

لكن رغم كل ذلك ، لم يسلم جبريل من سهام الاتهامات . تُكال له التهم بلا أدلة ، وتُعاد صياغة الروايات ضده بغير استقامة . غير أن الوقائع على الأرض – لا الخصومات السياسية – هي من تمنح شهادات الأداء . ورغم شراسة الحملات ضده ، لم تجد خصومته طريقها إلى الرأي العام إلا عبر مزاعم هشة ، لا تصمد أمام قراءة منصفة للواقع .

في لحظة فارقة كتلك التي يعيشها السودان ، تحتاج البلاد إلى قادة لا يهربون من النار، بل يخوضونها بعقل ناضج وضمير حيّ . وهذا ما رآه كثيرون في جبريل إبراهيم : رجل دولة حقيقي ، يزن كلماته ، ويدرك خطورة المرحلة ، ويتخذ القرار الصعب حين يتخلى الآخرون .

إن تقييم أداء جبريل لا يمكن أن يتم بعدسة الظروف العادية . لقد أُسندت إليه وزارة مدمرة في دولة منكوبة ، ورغم ذلك ، واصل النهوض بها بما توفّر من أدوات محدودة للغاية . الحفاظ على تماسك الدولة في مثل هذه الظروف ليس نجاحًا فحسب ، بل بطولة سياسية واقتصادية تستحق الاعتراف .

وفي نهاية المطاف ، سيكتب التاريخ أن جبريل إبراهيم ، في زمن السقوط الجماعي ، اختار أن يقف ، وأن يواجه، وأن يُنجز قدر ما يستطيع . وسيظل اسمه ، في وجدان كثر ، رمزًا لصلابة القيادة حين تعصف الرياح بكل شيء .

حافظ يوسف
2/مايو/2025

Exit mobile version