.
في عالم تتصارع فيه التحولات الكبرى، تبقى هوية الأمم مرهونة بقدرتها على التكيف مع التغيير. وكما قال فريدريك نيتشه: ” من لم يمتلك الشجاعة لتغيير جلده، لا يستحق شمس الغد”. في لحظة مفصلية من تاريخ السودان، تبدو التحولات في هوية مؤسساته تعبيرًا عن طموح مستمر لبناء غدٍ أفضل. هكذا يُنتظر من الجميع أن يفعلوا لاستقبال المرحلة الجديدة الواعدة ، ولإدراك دروس الحرب.
حديثنا عن “سوداني” لا ينطلق من بوابة الترويج ، بل من رصد لعملية تحول مؤسسي ترتبط بمرحلة وطنية أوسع وأشمل. فالانتقال من هوية تجارية قديمة إلى رؤية جديدة يُعد مؤشرًا على رغبة في التحديث والانفتاح، الذي ظللنا ندعمه من أجل الانتقال إلى فضاء التنمية، في وقت تتشابك فيه التحولات الرقمية مع تطلعات المجتمع للسلام والتطوير. هذه المعادلة ربما يدركها أكثر : أولئك الذين كانت لهم المنافي وطنًا بديلًا، حيث استطاعوا أن يروا الناس كيف تعيش، والبلدان كيف تقتنص الفرص وتتجاوز التحديات لأجل مستقبل آمن ومستقر.
أعلنت شركة “سوداني” للاتصالات مطلع الأسبوع عن هويتها البصرية الجديدة في مؤتمر صحفي ببورتسودان، مبرزة قيمًا ترتكز على الاستمرارية والصمود والابتكار. وبحسب مديرة التسويق، هبة علي عثمان، فإن التغيير يعكس رغبة في التحديث دون التخلي عن الجذور، ويجسد روح الاعتمادية والافتخار، وهي مفاهيم تُحمِّل الشعار الجديد أبعادًا رمزية تتجاوز المعنى التجاري.
رغم خسائر تجاوزت 9 ملايين دولار منذ اندلاع الحرب، تبنت “سوداني” استراتيجية بثلاث مراحل : البقاء والإصلاح والاستمرارية. وأثمر ذلك عن توسع كبير في تقنيات الجيل الرابع، وزيادة طول الألياف الضوئية إلى 25 ألف كيلومتر، ما أسهم في تحسين البنية التحتية الرقمية داخليًا وإقليميًا. كما أطلقت الشركة تطبيق “ماي سوداني” لتقريب خدماتها من المستخدمين.
في جانب المسؤولية المجتمعية، وهذا ما يتسق مع البعد الوطني، أطلقت الشركة مبادرة “العودة الآمنة” لمساعدة المواطنين في الرجوع إلى مناطقهم بعد الحرب، ضمن جهودها لدعم التعليم، والصحة والمياه. ويُعد هذا جزءً من التزامها بدورها الاجتماعي، في وقت يتطلب فيه الوطن تكاتف الجهود لإعادة البناء، وبعث الأمل في حياة آمنة يحدوها التطوير والانفتاح على الآخرين بوعي ودون تفريط.
الشعار الجديد بحسب خبراء يعكس بُعدًا وطنيًا يتجاوز الرمزية البصرية. اللون الأزرق الداكن يوحي بالثقة، بينما تشير النجمة إلى الوحدة والسلام. هذا الدمج بين التقنية والرمز الوطني يُظهر كيف يمكن للهوية المؤسسية أن تسهم في تشكيل خطاب وطني جامع، وهو ما يحتاجه السودان من كافة المؤسسات الوطنية في القطاعين العام والخاص.
تجربة “سوداني” تذكّرنا بما قامت به شركات عالمية غيرت هويتها البصرية لتعكس تحولات استراتيجية، مثل تحول “تويتر” إلى “إكس”. لكن خصوصية الحالة السودانية تكمن في تزامن هذا التحول مع مرحلة وطنية دقيقة، حيث لا يقتصر التغيير على الشكل، بل يمتد إلى عمق الخطاب المؤسسي والنهضة المجتمعية وتعزيز السلام .
رأى بعض المراقبين أن التخلي عن رمزية دينية في الشعار القديم لصالح مفاهيم رقمية وإنسانية قد يحمل دلالات “علمانية ناعمة”. غير أن هذا التفسير يبدو من وجهة نظر الدارس لطبيعة الشعار، مبالغًا فيه. فالسياق الاقتصادي والتكنولوجي يفرض أولوياته، ولا يعكس بالضرورة توجهًا أيديولوجيًا.
السودان اليوم يخوض معركة بقاء حقيقية، والشركات الوطنية مطالبة بالانخراط في معادلة التنمية، لا في جدل الهوية الفكرية التي ثبتتها قيم أهل السودان.
التغيير في “سوداني” ليس حدثًا معزولًا، بل هو جزء من سردية كبرى يعيشها السودان: على المستوى الوطني عبر الانتقال من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلام، وعلى المستوى الرمزي عبر إعادة تعريف الهوية دون انكسار الماضي. وكما كتب المفكر الفرنسي ألبير كامو: “لا يُقاس التقدُّم بعدد الجسور التي نبنيها، بل بعدد الجسور التي نعبرها دون أن نحترق” . “سوداني” اليوم تعبر جسرًا صعبًا، لكنها تفعل ذلك بحذقٍ يعكس روح شعبٍ تعلم أن ينهض من كبوته.
لذلك وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، تمثل “سوداني” نموذجًا لمؤسسة تتعامل مع الواقع المتغير بوعي استراتيجي، وتراهن على المستقبل، في وقت يعيد فيه السودان تعريف أدواته ومفاهيمه مستفيدا من دروس الحرب . البقاء اليوم لم يعد في الثبات، بل في الشجاعة على التغيير. وكما قال نيتشه: “من لم يمتلك الشجاعة لتغيير جلده، لا يستحق شمس الغد”.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 30 أبريل 2025م Shglawi55@gmail.com