
تدمير متحف القصر ..الحرب على التاريخ
تدمير متحف القصر الجمهوري في الخرطوم على يد الجنجويد..
حرق ونهب مقتنيات تاريخية نادرة من متحف القصر الجمهوري
إبادة ثقافية تمس ذاكرة الأمة السودانية
مليشيا (حميدتي) تحوّل المتحف إلى أنقاض وخراب
تدمير وثائق ومقتنيات أثرية لا تُعوَّض
السيارات الرئاسية والمخطوطات النادرة في مهب النهب والدمار
خسائر قطاع الثقافة والآثار تتجاوز 110 ملايين دولار بسبب التدمير والنهب
السودان يفقد جزءاً من ذاكرته الوطنية بعد تدمير المليشيا لمتحف القصر
تقرير :رحمة عبدالمنعم
في ضربة قاسية للذاكرة الوطنية السودانية، تعرّض متحف القصر الجمهوري في قلب العاصمة الخرطوم لدمار هائل، جراء الأعمال التخريبية التي نفذتها مليشيا الدعم السريع أثناء سيطرتها عليه قبل تحريره من قبل الجيش، هذا المتحف، الذي كان يحتضن مقتنيات تاريخية ووثائق نادرة تؤرخ لمحطات مفصلية في تاريخ السودان الحديث، تحول إلى أنقاض، بينما تحوّلت أرشيفاته إلى رماد.
خراب شامل
ويمثل متحف القصر الجمهوري أحد أهم الصروح الثقافية في السودان، حيث كان يضم مجموعة فريدة من المقتنيات، تشمل سيارات رئاسية تاريخية، وأثاثًا فخماً، ومخطوطات نادرة، إلى جانب وثائق رسمية تؤرخ لمسيرة البلاد السياسية منذ فترات ما قبل الاستقلال وحتى العهود الحديثة.
لكن المقاطع المصورة والصور التي انتشرت مؤخراً أظهرت حجم الكارثة، حيث بدت قاعات المتحف خالية، بعد أن نُهبت محتوياتها بالكامل، وتعرّضت السيارات الرئاسية للتحطيم، بينما تناثرت بقايا الأثاث المحطم والزجاج المهشم في أرجاء المكان، لم يقتصر الدمار على المتحف فحسب، بل امتد إلى مكتبة القصر الجمهوري التي كانت تزخر بمئات الكتب والمخطوطات النادرة، والتي تحوّلت بدورها إلى رماد بعد أن أضرمت فيها النيران.
وثائق ثمينة
المتحف كان يضم أرشيفاً غنياً بالوثائق التي تؤرخ لمراحل فاصلة من التاريخ السوداني، مثل وثائق ثورة اللواء الأبيض، وجمعية الاتحاد السوداني، والثورة المهدية، فضلًا عن وثائق تعود لحُقب الحكم الثنائي البريطاني المصري وما بعد الاستقلال، كانت هذه الوثائق تشكّل مصدراً بالغ الأهمية للباحثين والمؤرخين، إلا أن معظمها لم ينجُ من التخريب والإحراق.
ولم يقتصر الأمر على الحرق والتدمير، بل تعرض المتحف أيضًا لعمليات نهب ممنهجة، حيث تم الاستيلاء على العديد من القطع الأثرية والمقتنيات الثمينة، من بين ما فُقد، مجموعة من الأوسمة والقلادات الرئاسية، أبرزها وسام النيلين، الذي يُعد من أرفع الأوسمة السودانية، كما اختفت قطع أثرية كانت معروضة في جناح الهدايا، الذي كان يضم الهدايا التي تلقاها رؤساء السودان من زعماء العالم، مثل إبريق فضي ضخم أهداه الرئيس الباكستاني الأسبق ذو الفقار علي بوتو للرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري.
السيارات الرئاسية
إحدى أهم معالم المتحف كانت مجموعة السيارات الرئاسية التاريخية، التي ضمّت طرازات نادرة استخدمها حكام السودان منذ العهد الثنائي وحتى فترة ما بعد الاستقلال ،ومن أبرز السيارات التي دُمّرت أو نُهبت رولز رويس موديل 1924، التي أُهديت للحاكم البريطاني السير روبرت هاو، وسيارة مماثلة كان يستخدمها الرئيس جعفر نميري في الثمانينات.
كما فقد المتحف سيارات استخدمها آخر حاكم بريطاني للسودان نوكس هلم، وأخرى استخدمها أعضاء مجلس السيادة السوداني بعد الاستقلال، إحدى تلك السيارات كانت قد استُخدمت خلال زيارة الرئيس المصري جمال عبد الناصر للسودان عام 1959، مما يزيد من قيمتها التاريخية، لكن كل هذه المقتنيات إما سُرقت أو دُمرت بالكامل.
معلم أثري
لم يكن متحف القصر الجمهوري مجرد صالة عرض تاريخية، بل كان بحد ذاته معلماً أثرياً، المبنى الذي كان يحتضنه هو الكاتدرائية القديمة التي شُيّدت عام 1912 على الطراز البيزنطي، وكان الحكام البريطانيون يستخدمونها لممارسة شعائرهم الدينية، ومع تحويلها إلى متحف في عام 1999، أصبحت شاهداً على مراحل تطور الدولة السودانية، غير أن هذه التحفة المعمارية لم تسلم من الدمار الذي لحق بالموقع بأسره.
ولم يكن متحف القصر الجمهوري الضحية الوحيدة لعمليات التخريب والنهب التي رافقت الحرب. فقد طال الدمار متاحف أخرى، مثل متحف دارفور في نيالا ومتحف شيكان في الأبيض، حيث تمّت سرقة مقتنيات أثرية وفُقدت أرشيفات تحتوي على آلاف الوثائق والقطع التراثية، وبحسب التقارير، فإن الأضرار التي لحقت بقطاع الثقافة والآثار والسياحة في السودان تُقدَّر بحوالي 110 ملايين دولار نتيجة لأعمال النهب والتخريب.
حجم الاستهداف
وقال الباحث والخبير في التراث الثقافي، جمال طه ، بأن تدمير متحف القصر الجمهوري يمثل “ضربة قاسية للذاكرة الوطنية السودانية”، مشيراً إلى أن المتحف كان يوثق فصولاً هامة من تاريخ البلاد عبر مقتنياته النادرة ووثائقه الفريدة.
واضاف لـ(الكرامة ):إن فقدان متحف القصر الجمهوري بهذه الطريقة الوحشية لا يعد فقط خسارة ثقافية، بل هو جريمة في حق الهوية السودانية، هذا المتحف كان يحتوي على وثائق تؤرخ لفترات مفصلية من تاريخ السودان، إلى جانب مقتنيات لا تُقدّر بثمن، مثل السيارات الرئاسية والمخطوطات والصور التاريخية، وكلها تعرضت إما للحرق أو النهب.”
وتابع طه : إن تدمير هذا المعلم التاريخي يعكس حجم الاستهداف الممنهج للرموز الوطنية والتراثية في السودان. إن ما جرى لا يمكن تعويضه، لأن هذه المقتنيات ليست مجرد معروضات، بل شواهد حية على التاريخ السياسي والاجتماعي للبلاد .ودعأ إلى تحرك دولي عاجل لحماية ما تبقى من التراث الثقافي السوداني، ومنع تهريب القطع المسروقة إلى الأسواق العالمية، مشدداً على ضرورة توثيق الخسائر وملاحقة المتورطين في هذه الجريمة ثقافياً وقانونياً.
ضربة موجعة
إن تدمير متحف القصر الجمهوري لا يمثل فقط خسارة لمجموعة من القطع الأثرية والمقتنيات النادرة، بل هو إبادة ثقافية تمس ذاكرة الأمة السودانية، فقد كان هذا المتحف يجسّد التاريخ السياسي والاجتماعي للبلاد، ويؤرخ لمحطات نضالها واستقلالها، واليوم، يقف السودانيون أمام واقع مرير، بعدما مُحيت أجزاء لا تُعوَّض من إرثهم الثقافي، جراء حرب لم تفرّق بين البشر والحجر.
في ظل هذا المشهد الكارثي، تتزايد الأصوات المطالبة بتحقيق دولي حول هذه الجرائم بحق التراث السوداني، خاصة في ظل المخاوف من تهريب المقتنيات المسروقة وبيعها في الأسواق العالمية، وبينما يحاول السودان لملمة جراحه، تبقى آثار الدمار شاهدة على مرحلة سوداء في تاريخه، حيث لم تكتفِ الحرب بإزهاق الأرواح، بل امتدت لتمحو ذاكرة أمة بأكملها.