
د. عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق إفريقيا والسودان في فوكس السويد
العدالة أم الانتقام؟
مع استمرار النزاع المسلح في السودان بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، يبرز ملف المتعاونين مع الدعم السريع كإحدى أكثر القضايا تعقيدًا في مرحلة ما بعد الحرب. هذه القضية تتجاوز البعد القانوني لتشمل جوانب سياسية، اجتماعية وأمنية، قد يكون لها تأثيرات عميقة على مستقبل السودان.
في ظل المطالبات المتزايدة بضرورة المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، يبرز التحدي الأكبر: كيف يمكن تحقيق العدالة دون أن تتحول إلى أداة انتقام سياسي أو قبلي تزيد من تعقيد المشهد؟
تصنيف المتعاونين: بين الجريمة والإكراه
لفهم أبعاد القضية، لا بد من التمييز بين مستويات التعاون مع قوات الدعم السريع، إذ لم يكن جميع المتعاونين على قدم المساواة. يمكن تصنيفهم إلى عدة فئات:
• القادة السياسيون والعسكريون: وهم المسؤولون عن التخطيط والإشراف على العمليات القتالية والانتهاكات، مما يضعهم في صدارة من يجب محاسبتهم وفقًا للقوانين الوطنية والدولية.
• المليشيات القبلية: شاركت في الحرب بدوافع الولاء القبلي أو الصراعات المحلية، ما يتطلب مقاربة حذرة لضمان عدم إشعال مزيد من الصراعات.
• رجال الأعمال وشبكات التهريب: ساهموا في تمويل وتسليح الدعم السريع، وهو ما يستدعي ملاحقتهم قانونيًا.
• الإعلاميون والدعاة الأيديولوجيون: روجوا لشرعية الدعم السريع وحرضوا على العنف، مما يطرح جدلًا حول الحد الفاصل بين حرية التعبير والمساءلة.
• المتعاونون تحت الإكراه: أجبروا على التعاون بسبب السيطرة العسكرية على مناطقهم، مما يضعهم في موضع الضحايا أكثر من الجناة.
المحاسبة القانونية: تحديات التطبيق
1. القانون السوداني
يجرّم القانون الجنائي السوداني التعاون مع الجماعات المسلحة غير النظامية، لكن في بيئة سياسية غير مستقرة، هناك مخاوف من أن تتحول المحاكمات إلى تصفية حسابات سياسية بدلًا من تحقيق العدالة.
2. القانون الدولي
وفقًا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يمكن محاكمة الأفراد الذين ساهموا في انتهاكات جسيمة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. التجارب الدولية مثل محاكم نورمبرغ ورواندا ويوغوسلافيا السابقة، تقدم نماذج لمحاسبة المتورطين دون المساس بسيادة الدول.
كيف يمكن تحقيق العدالة دون تقويض الاستقرار؟
لمعالجة هذا الملف بطريقة تضمن العدالة وتجنب الفوضى، هناك حاجة إلى خطة متكاملة تشمل:
• إنشاء مفوضية مستقلة للعدالة الانتقالية تحقق في الانتهاكات وتصنف المتورطين وفق أدوارهم.
• تشكيل محاكم مختلطة تجمع بين القانون المحلي والدولي لضمان نزاهة المحاكمات.
• حماية الشهود والضحايا وتقديم دعم نفسي واجتماعي لهم لضمان مشاركتهم.
• تعزيز المصالحة الوطنية عبر الحوار المجتمعي والاعتراف بالجرائم وتعويض الضحايا.
• إعادة تأهيل المتعاونين الأقل تورطًا لمنع تحولهم إلى تهديد أمني مستقبلي.
• فرض عقوبات على رجال الأعمال الذين دعموا النزاع، واستخدام الأموال المصادرة لتعويض الضحايا.
• الرقابة الدولية لضمان النزاهة والشفافية في المحاكمات.
إصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية
بالتوازي مع المحاسبة، لا بد من إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية لضمان عدم تكرار الصراعات، وذلك عبر:
• دمج العناصر غير المتورطة من الدعم السريع في الجيش تحت إشراف دولي.
• تفكيك المليشيات الموازية لضمان عدم نشوء قوات مسلحة خارج سيطرة الدولة.
• إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية بحيث تكون خاضعة لرقابة مدنية.
العدالة الانتقالية: بين الاعتراف والتعويض
لضمان التوازن بين المحاسبة والمصالحة، يمكن تبني آليات العدالة الانتقالية التي تشمل:
• لجان اعتراف وجبر ضرر تتيح للمتورطين تقديم اعترافات علنية مقابل تخفيف العقوبات.
• حوافز قانونية لمن يتعاونون مع العدالة الانتقالية ويكشفون الحقائق.
• صندوق تعويض الضحايا لضمان الإنصاف، بدعم من المجتمع الدولي.
خاتمة: خيار السودان بين العدالة والفوضى
السودان أمام مفترق طرق تاريخي، حيث يمثل ملف المتعاونين مع الدعم السريع اختبارًا حقيقيًا لمستقبل العدالة في البلاد. الإفلات من العقاب ليس خيارًا، لكنه أيضًا لا يجب أن يتحول إلى مطرقة انتقامية تهدد المصالحة الوطنية.
إن تبني آلية عدالة مختلطة، تجمع بين القانون المحلي والدولي، إلى جانب مفوضية مستقلة للعدالة الانتقالية، هو الخيار الأكثر استدامة. فهذا النهج يضمن تحقيق العدالة، يعزز سيادة القانون، ويؤسس لدولة حديثة قائمة على الحقوق والمساءلة، بدلًا من ترك السودان رهينة لصراعات لا تنتهي