لم يكن صباح ذلك اليوم كأي صباح. الشمس أشرقت على “شرق النيل” ، لكنها لم تجد نفس المدينة الوادعة التي ألفتها، بل وجدت شوارعها قد تغيّرت ملامحها، وبيوتها قد أصابها الحزن، وأزقتها تحمل أنين أهلها الذين اقتُلعوا منها قسرًا. كانت هناك أحياء صامدة، وبيوت لم تهدمها الجرافات، بل هدمها الغدر، وقلوب لم تنكسر رغم كل ما أصابها.
“الفيحاء” تلك العروس التي لطالما تغنّى بها سكانها، والتي كانت مضرب المثل في هدوئها وجمالها، تحوّلت بين ليلة وضحاها إلى ميدان للبطش والتنكيل، لا لشيء سوى أنها كانت شاهدة على هروب من لم يعرفوا للكرامة معنى، وجبن من لم يدركوا أن للأرض رجالًا يحفظون عهدها.
“الفيحاء”لم تكن مجرد حي، بل كانت قصة وطن صغير داخل الوطن، حيث اجتمع فيها التكنوقراط والأساتذة والعُمال، وجيران تشاركوا الأفراح والأتراح، وأطفال حفظوا شوارعها عن ظهر قلب. لكنها اليوم تُنتهك، بيوتها تُفرغ، ومساجدها تئن، وأزقتها تحمل صدى خطوات الراحلين قسرًا عنها.
ورغم ذلك ، لم تنحنِ “الفيحاء”، كما لم تنحنِ شرق النيل كلها. كانت تعلم أن الصبر طريق للنصر، وأنها وإن فقدت أبناءها لبعض الوقت، فإنهم إليها عائدون، مكللين بالمجد، محملين بعبق الانتصار، حاملين رايات الصمود فوق أطلال الغزاة.
الآن ، وقد تحررت ” شرق النيل”، وعادت “الفيحاء” لأهلها، يحين الوقت لإعادة نشر هذا المقال، ليبقى شاهدًا على أيام الصبر، وليحكي للأجيال القادمة قصة “الفيحاء” التى لم تُكسر، وقلوب لم تستسلم، وعهد لم يُخن :
فيحــاء شـــرق النيــل عمار العركي – 21 يوليو 2023م
محلية شرق النيل الصامدة الصابرة تأبى إلا أن تكون “كرري أخرى”، شاهدة على بسالة نسور جيشنا الضارية، وهي تهيئ مسرحها للحسم وأرضها لتكون قبرًا لكل ما تبقى من متمردين ومرتزقة غزاة. فتحت أبوابها بكل فدائية، مستقبلةً الهاربين من جحيم قواتنا المسلحة في أم درمان والخرطوم وبحري، يملؤهم الجبن والخوف، ويكسوهم الهلع والرعب، ففرغوه بطشًا وتنكيلاً بشرق النيل الصامدة الصابرة. لكن ما أن اكتمل تجمعهم حتى أطبقت عليهم، وبإذن الله وعونه، وبصمودها وصبرها، لن يُغادر منهم أحد.
حي “الفيحاء”عروس شرق النيل ، التي أغرت بجمالها وهدوئها طبقة التكنوقراط وأساتذة الجامعات وموظفي الخدمة المدنية ومعاشيي القوات النظامية، فتسابقوا لنيل شرف القرب منها، فحازوه عبر خطتها الإسكانية أو سوقها العقاري، بأراضٍ شيدوا عليها بيوتًا بعرق الجبين ومكافأة خدمة السنين.
▪️ *”الفيحاء”*، أصغر أخواتها وأجملهن “دار السلام و القادسية “، وأهدى جاراتها ” النصر والهدى والجامعة”، لكنها كانت الأكثر تعرضًا للبطش والتنكيل. أحالتها فلول الميليشيات الباغية إلى خراب ودمار، فعاثوا فيها فسادًا، ونالت من العقاب والانتقام ما لم تنله أخواتها ولا جاراتها اللائي أشفقن عليها رغم مصابهن ولسان حالهن: “من يرى مصيبة غيره، تهون عليه مصيبته”.
▪️أُنتهكت *”الفيحاء”* وهي صامدة، شُرِّد غالبية أهلها وهي صابرة. أُفرغت البيوت من سكانها وما بداخلها، تُركت خاويةً على عروشها إلا من جدران وسقوف، ورغم ذلك كانت أحسن حالًا من بعض جاراتها، التي سكنها الغزاة وأقاموا فيها، ليمارسوا عليها الانتهاك اليومي، والموبقات، والفساد، والممارسات غير الأخلاقية.
أُهينت *”الفيحاء”* لأنها وُجدت على شارع “الوالي” الذي مضى إلى رحمة الله قبل سنين، فنكل بها الأوباش الجهلة حتى تخبرهم عن مكانه! وأُجرمت لأن “العقيد عبد الفتاح البرهان” طلب القُرب منها في مربعها الثامن، لكنه لم ينل النصيب، فباع بيته قبل إكمال تشطيبه، فجعلوها تدفع ثمنًا باهظًا فقط لأنها لم تخبرهم “أين البرهان؟”.
▪️ *”الفيحاء”* تُعذَّب وتُغتصب لأنها لم تخبرهم إلى أين ذهب عسكرها، ولم تدلّهم على منازلهم. تساءلوا عن الوزير ” جمال عمر” رحمه الله، فلم يميزوا بينه وبين “جمال فرفور”! بحثوا عن أبو قرون ، عزير، المطيري، عبد المحمود، عبدالناصر ، الطاهر ، سهيلي، الأقرع ..وغيرهم من بررتها والوطن ، وإمام مسجدها “الشيخ صلاح”، والمؤذن “الشيخ أحمد”، ومولانا سيف، وغيرهم، لكنها لم تجب.
▪️عذبوها، أفرغوا بيوتها، ونهبوها بذرائع البحث عن “الكيزان” والديمقراطية، حتى مسجدها “الحماد” لم يسلم، فلم يبقَ فيه سوى مؤذن وخمسة آخرين، أقسموا ألا يسكت الأذان، وألا تُهجر الصلاة.
▪️بُشراكِ يا فيحاء، فقد اقتربت ساعة النصر والخلاص، وغدًا تعودين، وإليكِ نعود:
▪️”إليكِ سنعود والأجيال تُصغي
إلى وقع الخطى عند الإياب
نعود مع العواصف الداويات
مع البرق المقدس والشهاب
مع الأمل المجنح والأغاني
مع النسر المحلق والعقاب
مع الفجر الضحوك على الصحاري
سيعود مع الصباح أبناؤك العباب”