معدودات ويرحل عنا عام 2024 إلى غير رجعة.. يرحل هذا العام لكنه يخلف وراءه جروحًا غائرة مازال نزيفها وضحاياها تخضب شوارع غزة وبيروت ودمشق وكييف والسودان واليمن وليبيا بالدم والدمار والأشلاء.
جروح ملفات تؤكد همجية المجرمين الذين قصفوا بكل أنواع القنابل التي تستخدم ضد الجيوش أحياء سكنية في شمال ووسط وجنوب غزة أولئك المجرمون لم يلتزموا بأي من قواعد الحرب ولا بأي من قواعد القانون الدولي.. وأخذوا في المدنيين تقتيلًا وترويعًا وتهجيرا من بيوتهم وقصفوا مستشفياتهم كل ذلك في ظل صمت مخزٍ من حكومات العالم غربًا وشرقاً وشمالاً وجنوباً.
سيدخل عام 2024 تاريخ الجنس البشري كواحد من الأعوام حالكة السواد التي شهدت انتهاكات لا مثيل لها في ظل عجز مقيت لمنظمة الأمم المتحدة وهيئاتها التي تعرض موظفوها في فلسطين المحتلة لذات المصير الذي تعرض له المدنيون الفلسطينيون.. لقد تسببت الحرب الإسرائيلية على غزة في حدوث أضرار في البنية التحتية بلغت قيمتها نحو 18.5 مليار دولار وفقا للتقديرات الأولية التي أجراها البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وقدرت الأمم المتحدة الركام الذي خلفه تدمير المباني في غزة بأكثر من 40 مليون طن. أي بمعدل 115 كيلوجراما من الركام في كل متر مربع واحد من أرض غزة.
لقد سقط أكثر من 42.5 ألف قتيل فلسطيني منذ بداية الحرب في غزة 28% منهم أطفال، 16% منهم نساء، وخلفت ماكينة الحرب الإسرائيلية 100 ألف جريح خلال عام من الحرب، وقال تقرير صادر عن منظمة الطفولة التابعة للأمم المتحدة اليونيسيف في شهر أغسطس الماضي إن 1.7 مليون شخص في غزة أجبروا على التوجه إلى منطقة لا تزيد مساحتها على 48 كيلومترا مربعا فقط ما يجعل الكثافة السكانية في تلك المنطقة تساوي 35 ألف ساكن في كل كيلومتر مربع واحد ولايزال جرح غزة ينزف.
والجرح الثاني النازف هو البلطجة والغطرسة الإسرائيلية التي تجاوزت كل الحدود في عام 2024 فها هي إسرائيل تعترف علناً لأول مرة على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس الاثنين الماضي «أن بلاده اغتالت إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في طهران في وقت سابق من هذا العام، ويمثل هذا أول اعتراف رسمي من جانب إسرائيل باغتيال هنية»، وقال كاتس: «ضربنا هنية في طهران في يوليو، وسنضرب الحوثيين بنفس القدر من الحسم. إن بنيتهم التحتية الاستراتيجية وقيادتهم في مرمى بصرنا، تماماً كما تعاملنا مع يحيى السنوار وحسن نصر الله في غزة ولبنان وإيران، سنفعل الشيء نفسه في الحديدة وصنعاء». كما وجه تحذيرا صارخا للمتمردين الحوثيين في اليمن، مهددا بـ«القضاء» على قادتهم.
المدهش والمفزع أيضاً أن كاتس يعترف بمسؤولية إسرائيل عن أكبر جرائم 2024 في عدة دول عربية فيقول: «لقد هزمنا حماس، وفككنا حزب الله، وأعمينا أنظمة الدفاع الإيرانية، وشللنا قدراتها الدفاعية».
وأضاف: «لقد أسقطنا نظام الأسد في سوريا، ووجهنا ضربات شديدة لمحور الشر، والآن سنتعامل مع الحوثيين، المجموعة الأخيرة التي لا تزال تستهدف إسرائيل». وهدد بكل وقاحة الكل قائلا: «أي شخص يرفع يده ضد إسرائيل سيواجه انتقاما سريعا. إن اليد الطولى للجيش الإسرائيلي ستحاسبهم».
أما الجرح الثاني من جراح 2024 فهو السودان المنسي.. فالحرب المدمرة في السودان لا تحظى بمتابعة إعلامية كبيرة مقارنة مع حروب أخرى مشتعلة حاليا في العالم، وها هو العام وهذه الحرب اللعينة في السودان تأتي على الأخضر واليابس وسط حالة من التبلد والتجاهل العالمي الذي قد يصل إلى حد الإجرام.. فمأساة السودان وشعبه بعيدة تماما عن أقلام وصفحات وشاشات القنوات العالمية في مؤامرة دولية متكاملة من الصمت.. إنها الإنسانية التي تنزف ولا مبالي.. الجوع يتمدد في السودان ليلتهم الأطفال والنساء والشيوخ في مناطق جديدة حسب تقارير مدعومة من الأمم المتحدة. في واحدة من أصعب وأقسى وأبشع الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث فالتقديرات تشير إلى أن أكثر من 24.6 مليون شخص يُعانون من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد.
الجرح الثالث الذي لا يجد له من معين هو ذلك النزيف الإنساني المستمر في أوكرانيا.. وفي الحقيقة لا يمكن حصر كل الخسائر التي تكبدتها أوكرانيا منذ اندلاع الصراع على أرضها، وإعلان موسكو الحرب، قبل ألف يوم ونيف.. فوفق رصد بعثة الأمم المتحدة لمراقبة حقوق الإنسان في أوكرانيا حتى أغسطس 2024 مقتل 11743 مدنياً وإصابة 24614 آخرين في أوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي الشامل.
ويحرص كلا الجانبين على إبقاء سجلات خسائره العسكرية أسرار أمن قومي، لكن أغلب التقديرات تشير إلى سقوط مئات الألوف من الجرحى والقتلى في الجانبين.
وبخلاف الخسائر المباشرة، رفعت الحرب الروسية الأوكرانية معدلات الوفيات لأسباب مختلفة في أنحاء أوكرانيا، وتسببت في انهيار معدلات المواليد بنحو 30%، وأرغمت أكثر من 6 ملايين أوكراني على الفرار إلى أوروبا، وجعلت من نحو 4 ملايين شخصا نازحين. وقالت الأمم المتحدة إن عدد سكان أوكرانيا انخفض زهاء 10 ملايين نسمة، أي نحو 25%، منذ بدء الغزو.
أما بالنسبة للكلفة الإجمالية لإعادة الإعمار والتعافي، فتشير تقديرات الحكومة الأوكرانية والبنك الدولي إلى أنها قد تبلغ نحو 500 مليار دولار حتى الآن.
بالإضافة إلى الجراح الثلاثة التي تعرضنا لها فالإنسانية مازالت تنزف في لبنان وسوريا واليمن وليبيا والصومال ومناطق أخرى في هذا العالم الذي هو من يجب أن يلام.. ويحاسب وليس الأعوام.