لم يكتف الرئيس عبود بتلك الانجازات التي ذكرناها في المقال السابق ولكنه تصدى لمجابهة الثمرة المرة والمقصودة لسياسة المناطق المقفولة التي كانت نتائجها اندلاع التمرد قبيل الاستقلال فسعى لتوحيد السودان ثقافيا شمالاً وجنوباً، وذلك من خلال تعريب التعليم الأولي بينما ترك التعليم الثانوي باللغة الانجليزية ريثما يتم تعريبه حتى التعليم الجامعي لاحقاً، وعلاوة على ذلك سعى إلى ترقية أساليب التعليم وضمان جودته وتوسعته لتوفير فرص أكبر لأبناء السودان في سن التعليم.
كان عبود يدرك كقائد ان التمرد في جنوب السودان غذته سياسة المناطق المقفولة التي ينفذها الاجانب فعمل على سودنة الكنائس في الجنوب بعد ان دحر التمرد بحملات عسكرية ناجحة واردف ذلك بطرد القساوسة الاوربيين الذي كانت مسالبهم ظاهرة للعيان في كل افريقيا كما اشار الى ذلك الكاتب الافريقي شنوا اشيبي في روايته ذائعة الصيت (الاشياء تتداعى)، حيث اوضح ان استراتيجية الغزاة الاوربيين هي دخول التبشير اولاً تعقبه الشركات الاوروبية العملاقة لنهب الخيرات ثم في نهاية المطاف تأتي الجيوش للاحتلال المباشر بعد أن يكون الاستغلال اقتصادي قد تم، والاستلاب الثقافي قد تمكن .
وفي المجال العسكري عمل على بسط هيبة الدولة وكسر شوكة التمرد الذي بدا في تلقي الدعم من اسرائيل التي اتخذت السودان عدواً نتيجة لمشاركة قواته ومتطوعيه في حرب سقوط فلسطين عام 1948 ودعمه لمصر عقب العدون الثلاثي عام 1956م ، ثم حاول وقف تمويل الجهات الغربية لحركة التمرد تحت ستار دعم حركات التحرر الوطني وأبطل خطط الانجليز بعيدة المدى المسماة بسياسة المناطق المقفولة، كما سبق ذكره.
كانت اعلى الجهات اصواتاً ضد عبود هو مجلس الكنائس العالمي الذي سعي لتاليب الراي العام العالمي والكيد للسودان في كافة المحافل الدولية، لذلك لم يكن مستغرباً أن جاءت اتفاقية أديس ابابا في العام 1972 تحت الرعاية المباشرة من مجلس الكنائس العالمي.
التقت الاطماع الغربية مع المكائد الشيوعية من داخل وخارج البلاد حيث تداعى الشيوعيون لتأليب الرأى العام في الداخل والخارج بشعارات ثورية وديمقراطية بثوها من خلال انشاءهم لجبهة الهيئات التي قادت عملاً شبيهاً بما حدث في اوروبا كربيع براغ وغيره مستغلين مقتل القرشي رحمه الله في المواجهات التي تمت بين الشرطة والمتظاهرين من طلاب جامعة الخرطوم، واستطاع الشيوعيون التأثير على الشارع من خلال واجهة جبهة الهيئات شبيهة وهي بواجهتهم الحالية تجمع المهنيين الذي خبا بريقه الآن بعد أن قام بما رسم له، وحشدوا الهتافات الثورية المنمقة، والأناشيد المدرة لعواطف الجماهير، فلم يجد عبود بداً عن التنازل سلمياً وتسليم السلطة، لتسود الفوضى العارمة حيث جاء أكتوبر بكل دسائس ومكر الاحزاب السياسية غير الراشدة فكانت النتيجة ان تصاعدت اﻷزمة السودانية وتم تدويل مشكلة الجنوب، حتى انتهت الترتيبات بحكم ذاتي تطور لاحقاً الى الانفصال وتكوين دولة جديدة عقب تدفق السلاح على قوات التمرد من كل حدب وصوب، واليوم يتكرر ذات دور اليسار المعروف عنه الركون الى التخريب والاستقواء بالخارج حتى وصلت البلاد الى حرب 15 أبريل التي هددت كيان الدولة نفسه في محنة لم يتعرض لها السودان طوال تاريخه الحديث.
وعندما تمت تنحية الرئيس عبود عن السلطة لم تكن أي من الدعاوى التي اثيرت حول عبود صحيحة حيث ترك البيت الحكومي وانتقل إلى بيت أحد أقربائه وعاش فيه إلى أن توفاه الله وكان كلما خرج الى الاسواق أو الأماكن العامة هتفت ذات الجماهير المخدوعة خلفه (ضيعناك وضعنا وراك يا عبود).
وإذا أتينا لجرد حساب منجزات اكتوبر وقارناها بما تم من تنمية سبقت الإشارة إليها في المقال الأول فاننا لا نجد شيئاً مذكوراً فقد عادت الأحزاب الى ذات خلافاتها وعراكها غير المنتج لينقض الشيوعيون على السلطة هذه المرة بانقلاب عسكري قاده الرئيس جعفر نميري وتلك قصة مختلفة تحتاج الى مقالات أخر، واذا تناولنا ذات الثورة مقرونة بما سمي بالربيع العربي الذي أدى إلى انهيار أكثر من ست دول عربية فإننا نجد نفس آليات التدخل المسبب بوعود برق خلب، ليظل السؤال ماثلاً أمامنا يبحث عن إجابة من قبل الجميع هل كانت تلك ثورات شعبية أم تدخلات أجنبية .