في كل الادبيات الشعبية لشعوب العالم القديمة يعد طائر الفينيق ايقونةً ورمزاً اسطورياً للقوة والتجديد والعطاء بلا حدود، والعزيمة التي تلهم الإنسان لمواجهة الصعاب وتحدي المستحيل، وتمكنه من العودة من جديد، وحتى في الحضارة الصينية يعد الدلالة الأكثر شهرةً للخير والمحبة والوحدة والطاقة والرحمة وكانوا يعتبرونه طائراً مقدساً، وعندنا في السودان طالما اعتدنا ربطه بذات المفاهيم والقيم بمقولتنا (طائر القينيق الذي لا يهدأ) كنايةً عن العمل الدؤوب المخلص دون كللٍ أو ملل.
بعد أشهرٍ من اندلاع الحرب في بلادنا وانكشاف حجم المؤامرة وداعميها، بتورط سيل من الدول الطامعة في هذه الأرض التي حباها الله بخيرات كثيرة وشعب كريم نبيل، وعندما بدأت استراتيجية الدولة لكيفية التعامل مع المخطط الكبير وحرب الاستنزاف الضخمة لكل شيىءٍ حتى لحصاد الناس البسطاء وشقاء عمر اجدادهم وابائهم، وحتى لا تتوقف عجلة الحياة ودوران دولاب العمل اختارت أن يكون مركز الإدارة مؤقتاً بعروس الساحل ودرة البحر الأحمر (بورتسودان).
وعندما وصل رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن البرهان وأركان الحكم كانت المطلوبات لانتقال المدينة من طابعها الاقتصادي لعاصمة بتعقيدات متطلباتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية (في ظل تداعيات الحرب) وحتى الاجتماعية من الضخامة بمكان، يومها لاشك انه اجتهد كثيرا للبحث في كنانته عن افضل الاعواد التي يرمي بها لإحداث النقلة المطلوبة وسط رماد الإحباط من ما احدثته الحرب من خسائر ومصائب، ليخرج بواحد من افضل قراراته وخياراته فدفع مطلع ديسمبر الماضي بالفريق ركن مصطفى محمد نور والياً لولاية البحر الأحمر .
وكما طائر الفينيق كان الفريق مصطفى خرج من رماد اليأس ببورتسودان لبراحات النور وقلب الأوضاع رأساً على عقِب مسابقاً الزمن لترتيب العاصمة المؤقتة، في بلد تعاني وفي مدينة تعاني من أزمات لعقودٍ من الزمان.
كانت بداية المهمة بتأمين العاصمة المؤقتة الجديدة بشكلّ كامل، وقد كان فانتقلت للاستقرار بها البعثات الدبلوماسية الدولية والمنظمات الإنسانية، ووكالات الأمم المتحدة وتحولت إلى ملاذٍ للأجانب بالحضور للسودان او مغادرته،
ثم كان التحدي الثاني الذين استعان فيه (فينيق بورتسودان) بالمعماريين والمهندسين ومخططي المدن وكذلك بالمجتمع المدني، لكيفية التكيف والمرونة للتأقلم مع الوضع الجديد للمدنية باستيعاب مؤسسات الدولة السيادية والمركزية وتوفير مقار لها، بدأ من القصر الرئاسي وصولاً لمقار الوزارات ومؤسسات الدولة المختلفة التي تحتاج لأن تكون في مقر القرار والإدارة، وكلها مسائل تحتاج لترتيب محكم في توظيف الإمكانات والمتاح امام المطلوبات العديدة وتعقيد أولوياتها فكل مؤسسة ترى ان يكون لها الأولوية لأهمية الدور الذي تقوم بها وعلى الفريق مصطفى ان يستمع للجميع ويوازن بينهم ويتنازل حتى عن مقار حكمه في ولاية البحر الأحمر لصالح السودان كله.
ومن على الساريات تم انتقال العديد من مؤسسات الحكم الولائي لتكون قومية، ورفعت اعلام المؤسسات المركزية وترك أبناء البحر الأحمر مكاتبهم برحابة صدرٍ لأجل السودان، وحتى في الطرقات بالمدينة كانت هناك ترتيبات لحركة الدستوريين في شوارع مدينة ما اعتادت على كل هذا الضجيج والزحمة ولكنها وأهلها قادرون على دفع ضريبة معركة الكرامة.
ثم جاء تحد ثالث مع زيادة اعداد الناجين الفارين من آلة القتل الهمجية لمليشيا الإرهاب والاجرام ومرتزقتها مع انتقالهم لاستهداف ولاية آمنة أخرى، وربما تكون بورتسودان من المدن القلائل التي فتحت أبوابها بلطف واريحية تعكس طبيعة وطيبة شعبها البجاوي النبيل وقائد ركبها الفريق مصطفى، ولاننسى توافد المئات من الطلاب بالجامعات.
ثم انفتحت نحو المدينة شهية أصحاب المال ومعروف ان (رأس المال جبان) لا يستقر حتى يشعر بالأمان فبدأت الشركات والمجموعات الاقتصادية والتجار يهبطون على المدينة التي كان ذروة سنامها وقمتها الاقتصادية الخاصة بين (المصدرين والمستوردين) لتنفتح على مطلوبات جديدة للقطاع الخاص، واستطاعت حتى الان ان تقدم كل التسهيلات الضرورية وفتح المنافذ لتيسير الاعمال للقطاع الخاص سواء لصالح الولاية او لصالح السودان كله، ومعروف حجم المنافسة بين رجال المال والاعمال وتلك تحتاج للسير بين الاشواك ولكن طائر قينيق بورتسودان لها وكسب رضا رؤوس الأموال ليبدأ الانسياب بكل ثقة نحو المدينة ولا يزال يقدم الفرص التي نعتقد انها بحاجة لمجهود وتجاوب من رأس المال الوطني فالفرص هنا كما البحر الذي تطل عليه اتساعاً.
وسط هذا الخضم من التدفق المتنوع كانت الصعوبات حاضرةً بسبب مشاكل الإدارة المتراكمة في السودان بتركيز الحكومات المتعاقبة على تنمية وتطوير الخرطوم واهمال الإقاليم، فبورتسودان تعاني من مشاكلات الكهرباء والمياه التي كانت على قدر ضآلتها يتعايش معها إنسان المدينة بصبر وجلد وامل في الحلول ويرتب حياته عليها ويتكيف معها ولكن الوافدين والضيوف ما اعتادوا على مثل هذا الوضع، وهنا كانت جهود وحركة ماكوكية لا تهدأ قادها الفريق مصطفى لإيجاد المعالجات لضمان معالجة هذه المشكلات المزمنة، ومن اصعب المهام ان (تعافر المال من جيب الحكومة في ظروف معقدة واولوية الحرب التي لا يمكن تجاوزها).
ثم جاءت مؤخراً كارثة السيول والفيضانات وهي فوق طاقة الولاية والسودان كله، وكان الفريق مصطفى يخوض لساعاتٍ وسط لامطار لنجدة شعبه ولايصال ما توفر بين يديه من مساعدات ، وكلنا يعلم تأثير انهيار سد اربعات، ويعلم أيضا حوجة الملايين من السودانيين للمساعدات.
سلسلة التحديات والتعقيدات طويلة امام الرجل من (الفقر- الطاقة- الغذاء- النقل- النفايات الصلبة- المياه والصرف الصحي- الصحة – تغير المناخ- الإسكان- النازحين- التامين – الاستثمار وغيرها وغيرها) ويواصل ساعات العمل حتي أواخر الليل ليستيقظ من جديد ليمنح بعزيمته الامل في انجاز وانجاح هذا الانتقال،
وانا سارة الطيب لو تبقى في كنانتي عزيمة باذن الله الواحد الاحد ساقدم لهذه المدينة ما استطعت إليه سبيلا.