جدلية الضعين وشندي .. لافتة لإشعال الفتنة

.

د.عبدالناصر سلم حامد
مدير برنامج شرق أفريقيا والسودان وكبير الباحثين فوكس للدراسات

يواجه السودان الآن تهديداً وجودياً ،يتمثل في تمدد الخطاب الشعبوي المناطقي العنصري بشكل غير مسبوق ،أعاد إلى الأذهان ماحدث في أعقاب الثورة المهدية في القرن الماضي من صراع بين ماعرف وقتها نزاع أهل الغرب واهل المناطق النيلية.

لقد خلقت الحرب الدائرة الآن في السودان واقعاً جديداً وغير مسبوق ، نتيجة للصدع الكبير الذي أصاب النسيج الاجتماعي في السودان.
وأفرزت الحرب مشكلات قبلية ومناطقية واضحة وجلية.

فعقب سقوط نظام البشير خلال العام الماضي، شهد السودان صراعات قبلية في عدة مناطق مثل النيل الأزرق ،وفي شرق البلاد أكثر من مرة، ولا يعد تطور الصراع القبلي في السودان بغريب على التفاعلات السودانية السياسية تقليدياً، فالعامل القبلي يعد إحدى أدوات الصراع السياسي بين القوى السودانية المختلفة، لكن تم استخدام هذا الكرت الخطير والمدمر من قبل نظام الانقاذ بشكل كبير.

ولكن لابد من القول أن الرافعة القبلية يتم استخدامها في الصراع السياسي السوداني ،لكن ليس بالشكل الذي ربما يبدو خطيرا بمثلما يجري الآن.

بالنسبة لدارفور فالمشكلة القبلية أيضاً موجودة ،لكن حالياً بدا الاصطفاف بين أبناء الشمال النيلي وأبناء الغرب منذ فترة، وأخذت الدعوات الشعبوية تتصاعد لاحقاً ،مابين الدعوة لدولة البحر والنهر
وقيام دولة دارفور الكبرى من بعض ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي .

أعادت هذه الحرب إلى الأذهان صراع ابناء الغرب مع أبناء الشريط النيلي أيام الخليفة عبد الله التعايشي،
فارتفعت الأصوات المنادية بفصل درفور.
أو مضادة تطالب بالقضاء على دولة 1956.
إن وجود قوات الدعم السريع في الخرطوم، وتمددها إلى ولاية الجزيرة وتهديدها باقتحام شندي.. الخ ،دفع بأصوات عديدة لرد فعل مضاد، حيث تم اعتبار ذلك من قبل بعض قطاعات شمالية ،إعادة لماجرى أيام الخليفة عبدالله التعايشي من تهجير لأهل دارفور لأم درمان عاصمة الدولة على النيل، وهي الهجرة التي يؤرخ بها أهل الشمال النيلي (دار صباح في مصطلح دارفور) لدولة الدارفوريين (الغرابة في مصطلح دار صباح) فيهم. وارتبطت بسياسات تلك الدولة في الشمال وشدتها على أهل “دار صباح” ذكر غبينة عن سياسات المهدية وقساوتها عليهم.
وبالطبع لا يستغرب أن يستعيد قسم كبير من السودانيين واقعة تلك الهجرة التاريخية في مثل الحرب القائمة اليوم ،التي هي في وجه من الوجوه واقعة بين “دار صباح” والغرب كما يقولوون ،فشبّه أحدهم أفعال “الدعم السريع” في يومنا بما كان يقوم به عثمان جانو في زمنه كما يقول د. عبدالله علي إبراهيم.
ومن ذكر تلك الهجرة التي لا تنضب معركة المتمة في أول يوليو عام 1891. ومعركة المتمة، والمتمة هي حاضرة شعب الجعليين الشمالي على ضفة النيل الغربية، وتبعد 160 ميلاً من أم درمان، وانتصر فيها جيش المهدية الذي معظم قوامه من شعب البقارة على الجعليين. وكانت الحرب قد بدأت بأمر من الخليفة إلى أهل المتمة ليرحلوا من غرب النيل إلى شرقه بما اقتضته “مصلحة الدين” ليجعل من بلدتهم ارتكازاً لجيش المهدية بقيادة الأمير محمود ود أحمد المتربص بالحملة الإنجليزية التي توغلت في السودان بعد مغادرتها مصر.

وبطريقة الخليفة في استخدام الجزرة والعصا خاطب أهل المتمة بلطف أول أمره قائلاً “بطيب نفس وانشراح صدر خذوا كافة أمتعتكم وأموالكم وجميع متعلقاتكم” إلى شرق النيل، وطلب منهم أن “يجتمعوا في مكان واحد ولا يتفرقوا”.
وانتبه حتى لفتح سوقهم بحذاء موطنهم الجديد عامرة، في قوله، كما كان.
ورفض أهل المتمة الأمر، وبدا أنهم بيتوا الرأي على حرب المهدية. والتقى الجمعان في أول يوليو 1891، وانهزمت المتمة، وسبيت نساء وأطفال وصودرت أموال غنيمة لبيت المال.

هذا التاريخ جرى استدعائه الآن ،عبر التذكير بسبي النساء في عهد التعايشي وكيف ذاق الشماليون عدوان المهدية عليهم فيذكرون، بجانب قتل الفين من رجال المتمة، كيف صانت جماعة من نسائهم شرفهن من السبي والانتهاك بأن ألقين بأنفسهن في النيل.

كل هذه العوامل تتشكل الآن لترسم جدلية شندي والضعين
فالضعين تعتبر حالياً عاصمة من يريد القضاء على شندي وماتمثله من السودان القديم.
ينسى هؤلاء أو يتناسون أن الخليفة عبدالله كان يمثل الدولة وقتها ويعمل على ضبط التفلتات على الدولة.
ويعمل على ترسيخ كيانها .

لكن مايحدث الآن هو أنه يتم الاصطفاف ،حيث تنتشر الدعوة لدفاع الكيانات عن وجودها.
في بداية الحرب جرى هذا الأمر في سبيل استقطاب المؤيدين ، لكن اتسعت الفجوة حيث أضحى
عدد كبير من الشعبويين يعتبر أن شندي تمثل السودان القديم ،ويدللون على أن جل قادة الجيش من تلك المناطق في مقابل الدعم السريع (أولاد الغرب)،
وبذلك يجري الاصطفاف القبلي والمناطقي بين الطرفين.
لقد هتكت الحرب الحالية النسيج الاجتماعي للسودانيين.

لم تحقق الدعوة لدولة البحر والنهر التي أطلقها الناشط عبدالرحمن عمسيب نجاحاً كبيراً ، لكنها خلقت واقعاً مختلفاً ، وذلك قبل اندلاع الحرب الحالية.

أما بعد وقوع الحرب فتصاعد الخطاب الجهوي ،واستخدم الطرفان هذا الخطاب المدمر والذي نتج عنه استقطاباً حاداً مازال مستمراً بما يهدد وحدة البلاد،
تمدد خطاب الضعين مقابل شندي ،وتحت اللافتتين يصطف مقاتلون ومواطنون من مختلف الطبقات.

أحدث هذا الخطاب جفوة بين المكونات السودانية

إن استخدام السياسيين لخطاب الكراهية ،خلق نوعاً من الغبينة داخل المجتمع السوداني

تمزق جدلية شندي والضعين المجتمع السوداني حالياً، وربما تفضي لتقسيم البلاد مع استمرارها.

يتعايش أبناء غرب السودان في شندي وكل مدن الشمال، بمثلما يعيش أبناء الشمال في غرب البلاد ،وهذه تمثل ركيزة الوحدة السودانية.

لايمثل الدعم السريع قبيلة الرزيقات أو الضعين أو غرب السودان.
في المقابل لايمثل الجيش قبائل شمال السودان،
وأي زيادة في هذا الخطاب المناطقي القبلي سيعمل على تفتيت المجتمعات وينتهي بتقسيم السودان.

فالمواطن السوداني واحد سواء في الضعين أو شندي او أي بقعة أخرى من السودان.
عطفاً على كل ذلك ينبغي التأكيد هنا أن هذا الخطاب العنصري المناطقي تم استخدامه من قبل بعض مثقفي الشمال ،وذلك في سبيل الحفاظ على مكتسبات السلطة التي ولعوامل تاريخية تركزت فيما يعرف بدولة 1956، عقب سقوط الدولة المهدية.
كما استخدم ذات الخطاب تحت لافتة التهميش وامتيازات دولة 1956 من قبل بعض مثقفي وناشطي أبناء دارفور.
وفي الفريقين لايمثل هذا الخطاب جموع الشعب السوذاني الذي يتعايش في كل المناطق بسلام وأمن لايعكر صفوه وسلامه الاجتماعي سوى هذه الدعوات.
وبالنسبة لاستدعاء تاريخ الخليفة عبدالله التعايشي ،فهذا الرجل كان حاكم السودان وفي سبيل تدعيم كيان الدولة عمل كل مايلزمه كرجل دولة تجابه تحديات داخلية وخارجية.
وبالطبع لايخلو حاكم من أخطاء وهفوات هنا وهناك.
لكن أن يتم استخدام ذلك في هتك النسيج الاجتماعي السوداني بما يفضي لنتائج كارثية من تشظي الدولة وتمزيقها ، فذلك أمر في غاية الخطورة.
ولايجدر بالنخب المتعلمة في سبيل تحقيق مكاسب ذاتية أن تتبنى مثل هذه الخطابات المدمرة.
فالسودان بلد غني ومترامي الأطراف وشعبه متعدد الاعراق بحيث تشكل كل هذه العوامل مصدر قوة لبناء دولة قوية ومتماسكة ومستقرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى