تأملات جمال عنقرة أخبار اليوم .. من أجل سودان يسع الجميع

ورجالة كدة تعاود اليوم صحيفة (أخبار اليوم) معانقة قرائها بعد مكابدات ثقيلة عامة وخاصة، ونعود معها ولم يكن أمامنا سبيل سوى العودة في ركابها، وهي فارس هذه الحوبة، وجواد رهانها، ولعلي كتبت بعضا من ذلك عندما عدت إليها بداية عهد ثورة ديسمبر المجيدة، وكنت قد ذكرت أني عدت من أجل استكمال رسالة بدأناها منذ عهد صدور الصحيفة الأول، وكان سعينا ومقصدنا جمع شتات أهل السودان، ولكنى اليوم أعود وفي حقيبتى سبب آخر، مبعثه الظلم والضيم الذي وقع علي صديقنا الأستاذ أحمد البلال الطيب، ناشر الصحيفة، وحادي ركبها، ويحضرني في هذه اللحظة موقف لأخي وصديقي وأستاذي النمر الراحل المقيم الدكتور عبد الله سليمان العوض، أحد أركان التأسيس للحركة الإسلامية في السودان، وأحد عباقرة هذا الشعب، وفارس من فرسانه الأشاوس، فعندما حدثت المفاصلة في صفوف الحركة الإسلامية بعد قرارات رمضان الشهيرة، كان الدكتور عبد الله من أوائل الذين أعلنوا وقوفهم مع الدكتور الترابي له الرحمة والمغفرة، وكان كثيرون يظنون أنه قد يفعل غير هذا، ذلك أن الدكتور الترابي كان قد بارك كل القرارات التي اتخذت في شأن الوكالة الإسلامية للإغاثة التي يعود الفضل في تأسيسها وبنائها من بعد الله تعالي للدكتور عبد الله، ولكنهم تامروا عليه، وأبعدوه منها، وبارك الدكتور الترابي لهم ذلك، فلما انحاز دكتور عبد الله للدكتور الترابي بعد المفاصلة، سأله أحد أقرانه الإسلاميين من الذين انحازوا للبشير، لماذا فعل ذلك، فرد عليه النمر، (فعلتها رجالة كدة) وكان السائل المستغرب من الذين ظل يقدمهم الدكتور الترابي في كل الفرص التي تتاح لهم، ولو كانت فرصة واحدة منحها له، وللذين يسألونني لماذا عدت إلى أخبار اليوم، أقول لهم ما قاله عبد الله النمر (عدت رجالة كدة) ولأن أحمد البلال (راجل)، ولأن هذه هي المرة الثانية التي يتعرض فيها لمثل هذا الظلم، ويبعد عنه أقرب الأقربين، نقف معه (رجالة كدة) وللذين لم يشهدوا المرة الأولى فلقد كانت قبل خمسة وثلاثين عاما أو يزيد قليلا، وتحديدا في العام 1985م، عقب انتفاضة رجب أبريل، وكان بعض الواشين من الشيوعيين وأتباعهم قد اتهموم بأنه كان يعمل في جهاز الأمن، وأنه قد أثري من نظام مايو، فأوقف من العمل في صحيفة الأيام التي كان يشغل فيها منصب مدير إدارة الأخبار، وتشكلت لجنة قضائية للبحث والتقصى عن التهم المنسوبة له، فلما لم تجد شيئا واحدا صحيحا مما أتهم به، برأت ساحته، وزميله صديقنا الدكتور محي الدين تيتاوى، فلم تعجب البراءة الشيوعيين، فقادوا إضرابا عن العمل في الصحيفة، شارك فيه أقرب الأقربين لأحمد البلال، ومنهم من كان فضله عليهم سابقا، ولن أذكر هؤلاء، ولكنني أذكر الذين ظلوا يداومون علي العمل، ويصدرون الصحيفة، وهم الزملاء أسامة سيد عبد العزيز، وحسن الرضي، وميرغنى ابو شنب، وبابكر ابو الدهب، وحسن محمد زين، وشخصي الضعيف، فما أشبه الليلة بالبارحة، فالذين اتهموا أحمد البلال بالفساد، منهم من ولغ في الفساد، ومنهم من حوكم بتهمة الفساد، وأخرج من السجن بشبهة فساد، وأقول للذين يتهمون الرجل بالثراء الحرام، أرجعوا إلى سجلاته، وراجعوا حساباته، ويكفي أحمد البلال أن صحيفة الدار وحدها التي ظلت تتربع علي عرش الصحافة السودانية لأكثر من ربع قرن من الزمان بلا منافس، كانت أرباحها اليومية ولمدة خمسة عشر عاما تقريبا تتجاوز العشرة آلاف دولار، فراجعوا حسابات الرجل، أو قدموه إلي محكمة عادلة، وهو مستعد لذلك، ولكن أن تجمد كل حساباته، وممتلكاته بسبب دعوى بعض أهلها متهومون بالفساد، فذلك عين الفساد. أما صحيفتنا (أخبار اليوم) فهي صحيفة المواقف الوطنية المشرفة، وكان لي شرف أن أكون طرفا أصيلا في كثير مشروعاتها الصحفية الوطنية الكبيرة، والتي صارت جزءا من تاريخها، ومن تاريخ هذا البلد الناصع، وأذكر في بداية عهد صدورها في العام 1994م، تقريبا، كان الصراع محتدما بين الحكومة والمعارضة، وكان منطق الرئيس الحاكم آنذاك (جبناها بالبندقية، والعايزها يشيل البندقية) وكان منطق رئيس التجمع المعارض مولانا السيد محمد عثمان الميرغني (سلم تسلم) وفي تلك الأجواء المشحونة المتوترة عرضت على الأخ أحمد البلال فكرة تنظيم ندوة صحفية بعنوان (كيف يحكم السودان) فوافق بلا تردد، وأخلي لي مكتبه لاستضافة ضيوف الندوة أسبوعيا، ورشح لي إثنين من المتدربين لرصد ومتابعة الندوة، هما عثمان فضل الله، ومريم أبشر، وكانا خير معين لي، وتطورا بسرعة فائقة، وكما توقعت فلقد صار لهما شأن عظيم في بلاط صاحبة الجلالة، وكانت ندوة أخبار اليوم بمثابة المفتاح الأول لبوابة الحوار في ذاك الزمان. وفي العام 1996م، عندما قررنا مع أخي الحبيب الراحل المقيم الوطني الغيور الشريف زين العابدين الهندي التمهيد لمبادرة الحوار الشعبي الشامل التي أطلق نداءها الشريف زين العابدين، اتفقنا مع الشريف والدكتور عبد الله سليمان الذي كان أول من ساند وبارك ودعم المبادرة من الإسلاميين، اتفقنا علي تنظيم ندوة عن الحوار تنبثق عنها هيئة شعبية للحوار، فحضرت إلي السودان وذهبت مباشرة إلى أخي أحمد البلال الذي تبني الندوة، وتكفل بكل نفقاتها، وكانت أكبر ندوة تعقد في ذاك الزمان، وأقمناها في قاعة الشارقة بجامعة الخرطوم، وكان المتحدث الرئيس فيها المرحوم الدكتور محمد الأمين خليفة، وكان يشغل وقتها منصب رئيس المجلس الأعلى للسلام، وكان محور الحديث حول الحوار الوطني والسلام، وشارك فيها أكثر من مائتين من كل أطياف السودان السياسية وغير السياسية، ومن داخل الندوة تشكلت الهيئة الشعبية للحوار الوطني والسلام، والتي كان من الممكن أن تكفي الناس شرور كثيرة وقعت بعد ذلك، لولا أنها حوربت حربا شديدة من أعداء الحوار داخل النظام السابق. والآن تعاود أخبار اليوم الصدور، والبلد أكثر ابتلاء، والمصائب تحيطه من كل جانب، وأصعب هذه الابتلاءات الفرقة والشتات، ليس بين حاكمين ومعارضين لهم، ولكن الشتات ضرب كل ناحية، فلم يعد يخلو منه مكون، وصار بأس الناس بينهم شديدا، ومع ذلك لا تزال قناعتي راسخة أن السودانيين في مقدورهم تجاوز كل هذه الخلافات، وطى صفحتها إلى الأبد، وفتح صفحة جديدة بيضاء ناصعة، يرسمون فيها خارطة وطن يجد الجميع أنفسهم فيه لا عزل ولا إقصاء، وطن يسع الجميع بإذن الله تعالي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى