أخر الأخبار

نصر الدين والي يكتب : أستاذ أغا… خواجة ونص

إحتفاءاً بيوم المعلم، أرسل تحية خالصة لرمز من رموز العلم والمعرفة، أستاذي محمد صالح أغا.

مقال نشر في تاريخ سابق.

.

وأستاذ أغا صديق للصبي، جمعت بينهم اللغة الإنجليزية وآدابها، فأستاذ أغا أحد الضليعين باللغة الإنجليزية، قواعدها واستخدامات الكلمات، والتركيب الدقيق للجمل وتصريف الأفعال، والصبي شغوف، مولع، ومفتون باللغة الإنجليزية، جذبته منذ أيامه الأولى بالأميرية، وأستاذ أغا يتحدث بأسلوب المختصر المفيد، يشير للتضاد بغية التأكيد.

وقد حدثت حكاية للصبي في سنته الأولى في الجامعة، فقد جاء ذكر جمع كلمة
(Water)

في سياق جملة، فقال لأستاذته بروفسور (ص.ا)، إن كلمة
(Water)

تجمع في حالة واحدة، وأصرت البروفسور، بأن هذه الكلمة لا تجمع قط، وقال لها الصبي بأدب جم، تجمع

في حالة قولنا
(Territorial waters)
وهو مبدأ في القانون الدولي يصف الـ (The area of the sea
Immediately adjacent to the shores of a state and subject to the territorial
Jurisdiction of the state)

، فامتعضت البروفسور أشد الامتعاض وزجرت الصبي أن يكف عن
مغالطتها. فسكت الصبي تأدباً واحتراما.

وفي اليوم الثاني كتب الصبي رسالة لأستاذه أغا، بدأها بـ«أستاذي الجليل، محمد صالح أغا…»؛ وشرح له ما حدث بينه وأستاذته، وأودع تلك الرسالة البريد. ومضت الأيام، وجاءت الإجازة السنوية، ركب الصبي الباص من بغداد إلى عمان الأردن، وركب الطائرة إلى القاهرة وطائرة أخرى إلى الخرطوم؛ وصل الصبي إلى مدينته سنار، وبعد يوم واحد ذهب لزيارة مدرسته، سنار الثانوية، وكانت رغبته مقابلة أستاذه الجليل، أغا.

فرحب به أستاذه بابتسامته الرقيقة، والنظارات كعادتها تتدلى من عنقه إلى منتصف صدره، فوق قميصه الأبيض الأنيق، وشعره الناعم مسرح بعناية فائقة يميل إلى جهة واحدة، لم يتغير شيء؛ سلم أستاذ أغا عليه بحرارة، سأله عن أحواله وصحته، رجل رقيق، دقيق، حصيف في قوله، ودود، وحافظ له. دلف أستاذ أغا للحديث إلى حال المدرسة والنقص الذي تعانيه، في جانب التدريس، خاصة اللغة الإنجليزية، فقال له الصبي، إن رأيت أن أكمل النقص بتدريس اللغة الإنجليزية؛ فقزت الفرحة في عيني أستاذه أغا، وقال نعم، بكل تأكيد وفوراً قاد الصبي إلى فصل دراسي أظنه (فارابي)؛ وقدمه للطلاب وذهب.

قدم الصبي للطلاب نفسه معرفاً باسمه، فما كاد ينتهي، إلا وأن بادره أحد الطلاب، قائلاً «هل أنت فلان»؛ فقال الصبي «نعم»، فقال له الطالب «يا أخي إنت جننتنا» فاستغرب الصبي من هذا القول، ورد عليه كيف؟»، فقال له الطالب، «إنت رسلت رسالة لأستاذ أغا فبل فترة طويلة»، فقال له الصبي «نعم»؛ قال له الطالب، «أستاذ أغا محتفظ بهذه الرسالة في جيب قميصه، وكلما يهرجل الفصل، يقول لينا «هسسس. هسسسس» ويخرج رسالتك ويقرأ أولها «أستاذي الجليل محمد صالح أغا»، ويضيف «دي رسالة من طالبي النجيب فلان، منو منكم سيقول لي يوماً ما أستاذي الجليل»؟ ويدخل الرسالة في جيبه، فيسكت الفصل، ويستمر في التدريس؛ فحفظنا اسمك، وكأنك أنت الألفة في الفصل. فلم يعرف الصبي، أيضحك أم يبكي؟ ورانت لحظة صمت في الفصل. وتقدم الصبي من السبورة وبدأ أول درس له في اللغة الإنجليزية، وفي خلده محبة أستاذه أغا له تملأ قلبه دفئاً رائعاً، كم هو أستاذ ورجل نادر، يحفظ الود.

وأستاذ أغا أصبح فيما بعد وكيلاً لمدرسة سنار الثانوية، رجل دقيق كالساعة السويسرية، حافظ للمواعيد (كساعة بيغ بن) في لندن، أناقته، بنطلون كاكي وقميص أبيض، وحاملات للقميص متعاكسة، حذاء لامع، شعر ناعم مسرح بعناية يميل لجهة اليمين، وأستاذ أغا بزيه ذاك يخيل إليك أن أحد اللوردات الإنجليز أو أحد من حاشية الملك قد ضَل طريقه بعد يوم صيد في الريف الإنجليزي فوجد نفسه في بادية السودان، أو واحد من حكام الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس تنقصه البرنيطة الكاكية تخلف عن ركب العودة بالقطار في محطة الخرطوم بعد إنزال العلم البريطاني واختار العيش في السودان فأكسبته شمسه بعض سمرة في الوجه واليدين، أو أحد شخصيات روايات شكسبير أو ديكنز في زيارة إسكتشافية لبلاد السودان.

يدخل الفصل، ويكتب على ركن السبورة الأعلى الأيمن اليوم والتاريخ، لم تشهد أي سبورة في سنار الثانوية خطاً كخط أستاذ أغا، ينسخ الحروف الإنجليزية نسخاً، بطريقة فريدة لم يسبقه إليها أحد، ولم يقلده أحد من طلابه البتة؛ ثم يلتف للفصل ويبدأ في درسه، أستاذ أغا يشدد بما أصطلح عليه من ال (Intonation in phonetics) ما يراه هاماً، ويقول صدقوني دي بتجي في امتحان الشهادة، احفظوها؛ ويقول «صح ولا ما غلط»، فهو مولع بمثل ذلك القول. ثم أصبح أستاذ أغا أحد أعمدة جامعة سنار عندما حولت سنار الثانوية بكامل مبانيها إلى جامعة سنار، وعندما حانت لحظة المعاش، طوى كتبه ومعرفته بمهنة أحبها وأفنى عمره فيها، وقدم لطلابه ووطنه جواهر المعارف، وإرثه الكبير في معرفته بخبايا اللغة الإنجليزية، وآدابها؛ وقصد أستاذ أغا محكمة سنار ووضع منضدة متواضعة خارجها وأصبح كاتب (عرض حالات) رافضاً أي مساعدة من أصهاره الحميداب الأخيار، تمسك بعمله الجديد، الشريف، يقابل الناس باتسامته المعهودة يحكون له ويبثونه مشاكلهم ويستودعونه رجاءاتهم فيدون لهم قضاياهم بخط وأسلوب يبهر الناظر ويدخل الرضا على قلب الشاكي، فيحس بأنه قد كسب قضيته من منضدة أستاذ أغا المتواضعة تلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى