
بسم الله الرحمن الرحيم
السادة الحضور من رموز وقامات أبناء بلادي الأوفياء
في جمهورية مصر الشقيقة
اخواتي واخواني الكرام المواطنين السودانيين الأعزاء
ابنائي وبناتي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أحييكم في هذا المساء وأنتم ونحن نجتمع في بيت السودان، تعبيرًا عن الدعم والمساندة لقواتنا المسلحة الباسلة وهي تزود وتدافع في شموخ وإباء واستبسال عن الأرض والعِرض في حرب فرضها على البلاد تمرد ميليشيا الدعم السريع على الدولة وشعبها وأهلها ومؤسساتها، بل هي مؤامرة كاملة الأركان دبرتها الميليشيا بليل وسعت فيها بغدر وخسة وتضليل، ظنت واهمة أنها قادرة على الاستيلاء على السلطة بالقوة والسلاح، بل وسعت حالمة لفرض الأمر الواقع على أهل السودان تحت حجج معطوبة وشعارات كذوبة، تفضحها فيها فظاعاتها وانتهاكاتها اليومية الجسيمة التي لم ير السودانيون أبشع منها ولم يقرأوا أويسمعوا في تاريخهم القديم أو الحديث أسوأ وأفظع منها. فظاعات وانتهاكات لم توفر أرضا ولا عرضا.. فظاعات وانتهاكات استهدفت كل ما هو عزيز على الشعب السوداني من أنفس وثمرات ومتعلقات شخصية وذكريات عزيزة وغالية محفورة ومنقوشة في جدران منازلهم وشوارعهم ودورهم التي اضحت أثرا بعد عين بعد أن عاثت فيها الميليشيا ونهبتها بل وأحرقتها في حقد وغل غير معهودين في السودانيين، وانتشروا في بلادنا تدميرًا للبنى التحتية واحتلالًا للمقار الحكومية المدنية وإتلافًا لشبكات الكهرباء والماء والاتصالات وغيرها، هذا غير القتل والاغتصاب والسرقة والتي وثقت المليشيا المتمردة جزءًا مقدرًا منها بأنفسهم. وغني عن القول أن هذه الانتهاكات وجدت ادانات واسعة من الدول والهيئات والمنظمات الدولية وتنظر المحكمة الجنائية في فتح تحقيق فيها باعتبارها جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية.
أعزائي واخوتي واخواتي الكرام،
ها انتم اليوم تتدافعون وقوفا مع قواتكم المسلحة تملؤكم العزة والكبرياء لأنكم تقفون مع شرف الوطن وعزته ونصرته، تقفون مع بقاء الوطن في لحظة تاريخية فارقة اما أن يكون أو لا يكون. تقفون مع قواتكم المسلحة لأنها المؤسسة الوطنية العريقة القومية الشامخة التي يناهز عمرها المائة عام والتي تجسد كل السودان واثنياته وثقافاته وسحناته واركانه الاربعة في شمم وعز وكبرياء. وبعيدا عن أن تاريخ القوات النظامية في السودان يعود إلى ما قبل مملكة كوش في القرن الثامن قبل الميلاد، فإنه، وكما هو معلوم، بدأ إنشاء الجيش السوداني الحديث حوالي العام 1925م بتكوين قوة دفاع السودان التي شاركت وحدات منها فيما بعد في الحرب العالمية الثانية إلى أن تم تكوين الجيش السوداني الحديث بعد العام 1954، قبل أن يتطور الى شكله الحالي تحت مسمى قوات الشعب المسلحة ثم القوات المسلحة. وخلال هذه الفترة تراكمت لدى جيشنا الباسل الخبرات والمعرفة في شتى مجالات العلوم العسكرية، مقرونة بمشاركات اقليمية ودولية واسعة، منها مشاركته في حرب فلسطين 1948، وفي حرب اكتوبر 1973 مع اشقائه في الجيش المصري هنا، فضلا عن مشاركات مشهودة في البعثات الدولية في مساعي حفظ السلام في الكونغو وتشاد وناميبيا.
أننا لنفخر بكسب وتأهيل قواتنا المسلحة التي تدرب منسوبوها داخل السودان وخارجه ونالوا أعلى الدرجات العسكرية العلمية، وصارت مؤسسات التدريب التابعة للقوات المسلحة السودانية قبلة منشودة لتدريب الضباط وخاصة من الدول العربية والإفريقية الشقيقة. ولقد توثقت وازدادت رقيًا بمطابقتها لمتطلبات القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني حرصًا على كرامة النفس البشرية حتى ولو كانوا من الأعداء المقاتلين، وحماية للمدنيين في أوقات الحرب، وذلك من خلال التدريب والتوعية المستمرة بالتعاون الوثيق مع هيئات الأمم المتحدة المعنية بتطبيق القانون الدولي الإنساني لدى القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى. كما أن للقوات المسلحة دورًا في أوقات السلم لا يقل أهمية عن دورها في أوقات الحرب، فنراها حاضرة كلما طرأ طارئ لتقديم المساعدات في حالات الكوارث الطبيعية والأزمات القومية.
أحدثكم اليوم ـ الحضور الكريم ـ وفي البال ذكريات جرعة التدريب العسكري القوية التي تلقيناها ونحن في بداية خدمتنا بوزارة الخارجية في العام 1988، على أيدي مدربين أجلاء من القوات المسلحة، تعلمنا منهم قبل قواعد البيادة، وقبل مراحل فك وتركيب السلاح، معاني أن “لبس الكاكي” وحمل السلاح مسئولية كبيرة وشرف باذخ لا يدانيه شرف، وأن في معركة الدفاع عن الوطن تهون النفس ويتوارى الخاص وتنزوي “الأنا”، عرفنا حينها أن بداية أي معركة، وقبل كل شيء، جهاد تعلم الانضباط والالتزام وقبلهما مكارم الاخلاق والشرف، وشتان ما بين مدرسة قوامها الالتزام والانضباط والشرف هي مدرسة القوات المسلحة الباسلة الأبية، وما بين سلوك ميليشيا ومجموعات متمردة جبلت على السفك والقتل والتفلت، ميليشيا تقتات على الاغتصاب والنهب وهتك الاعراض في سلوك يومي نمطي يقومون به دون أن يطرف لأفرادها جفن، أو يصحو فيهم حس انساني أو ضمير. يظنون، وهم الواهمين أن ذلك يفت من عضد وعزم شعبنا الأبي أوقواته المسلحة الباسلة، ولكنهم لبؤسهم، ما دروا أن شعبنا وقواتنا الباسلة تتأسى قول الشاعر:
الوحش يقتل ثائرا والأرض تنبت ألف ثائر
يا لكبرياء الجرح لو متنا لحاربت المقابر
بل كأنهم غفلوا وتناسوا أن جنودنا وقواتنا المسلحة هم أحفاد عبد الفضيل الماظ وصحبه، واخوان الشهيد عثمان مكاوي ذاك النبيل الذي على رؤوس الأشهاد، وبوجه وضيء وابتسامة مضيئة تملا الاركان الأربعة، يعلن حبه للجيش وللشعب، وكان شهيدا حيا بيننا يعلن استشهاده قبل موته الباذخ “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون”، صدق الله العظيم.. يبتسم مكاوي مرددا “حنعيش كم سنة يعني نحنا؟ هسة نحنا قاعدين نقاتل عشان نمشى بعد دا، ناس تانيين يجوا ورانا يقاتلوا كمان”! ويا لها من مشية أيها الشهيد الحي.. يمضي عثمان غير هياب ولا وجل مصادما ومقاتلا كأنبل ما يكون القتال الى أن يلقى ربه راضيا مرضيا شهيدا في أرض المعركة تزفه الملائكة الى السماء مخضبا بدمائه كما تخضب الحناء العريس في يومه المشهود.. يا لصدقها من كلمات ويا لنبلها من مشاعر حب للوطن ويا لعظمتها من روح للفداء وتقديم النفس رخيصة في سبيل الله والوطن، وكأني بعثمان واخوانه الشهداء، ممن سبقوه في درب العزة ومن لحق به، في مشيهم الثابت المستقيم نحو الموت والشهادة يرددون قول الفارس عنترة بن شداد:
يا عبلُ لو أني لقيت كتيبة سبعين الفا ما رهبت لقاها
وأنا المنية وابن كل منية وسواد جلدي ثوبها ورداها
هذا الانضباط والوعي والالتزام بقواعد الاشتباك التي يفرضها الدين والأخلاق قبل أن تفرضها القوانين الدولية من جانب القوات المسلحة يقابله سلوك همجي وبربري من جانب المليشيا المتمردة لا يرعون فيه إلًّا ولا ذمةً، بل يعيثون فسادا في كل ناحية وكل ممشى وفق مخطط تآمري كبير يريد أن يغير الأرض التي نعرفها وتعرفنا، يريدون أن يبدلوا جيرتنا ومعالم احيائنا والناس من حولنا رغما عنا، يريدون ان يحتلوا بيوتنا التي خبأنا فيها ذكرياتنا وأشواقنا وغرسنا فيها احلامنا وشهدت شقاوة صبانا الباكر وميلاد ابنائنا وبناتنا، يظنون أنهم قادرون أن يغيبوا ذكرياتنا وذاكرتنا ويفصلوا مسامنا عن جلدنا، ولكن خاب فألهم وضل مسعاهم كضلالهم الذي هم والغون فيه، فها هي البشارات تترى من لدن قواتنا الباسلة الأبية أن موعدنا مع النور قريبا، وأن نهاية التمرد قاب قوسين أو ادنى لتٌطوَى صفحةٌ كالحةٌ وبائسة من تاريخ امتنا الباذخ،. عما قريب انشاء الله سنعود الى مطارح هوانا في تلال كردفان ووديان نيالا وفي الجنينة الغناء، نعانق الاهل والاحباب في شوارع بحري وعلى جنبات خور ابو عنجة في ام درمان وفي شارع النيل في الخرطوم وفي قيزان عروس الرمال في الابيض، نعود من عرصات التهجير القسري لنرتاح في أفياء ديارنا ونحن أقوى عزيمة وأمضى شكيمة. حتى متعلقاتنا الشخصية التي لا تزال تحتفظ برائحتنا ونحتفظ بتفاصيلها والتي نهبها الجنجويد، سنكتشف أن لها اثارا باقية في دواخلنا وفي وجداننا وفي مسام اجسادنا، مهما دمروها او نهبها من لا يعرف قيمتها ولا يفهم كيف أنها جُلبت بعرق وجهد وحفظت بحب ولهف واعتزاز، ستبقى معنا وأن ذهبت.. ستنهض المدن من جديد مخضرة وزاهية الألوان تغني لنا وتفتح ذراعيها لعودة الابن الغائب والحبيب العائد ويا له من شوق ويا لعظمته من لقاء.. المدن والذكريات لا تموت، يموت ويهلك المعتدون الآثمون، ويذهبون في التاريخ تلاحقهم اللعنات، وتبقى الحقيقة والجمال والخير:
نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل
وحبات سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل
نؤكد لإخوتنا وأبنائنا في القوات المسلحة قيادة وضباط وصف ضباط وجنود أننا على العهد باقون وأننا نبادلهم وفاءاً بوفاء وأن معاني نشيد العلم الذي رددناه قبل قليل ليس مجرد عبارات تغنى فحسب، بل هي عزيمة وإصرار على أن النصر باذن الله قريب وبشائره تلوح في الافق، وكلنا في صف القوات المسلحة سندا ودعما لها. ولا يفوتني هنا أن اشير الى أن الدبلوماسية تظل هي الخط الأمامي للدفاع عن البلاد في الخارج صونا للأمن القومي وحفظا لمصالح البلاد العليا وهي بذلك في خندق واحد مع القوات المسلحة حفظا للبلاد ووحدتها وسيادتها ومؤسساتها الشرعية.
إن هذه الوجوه النيرة التي اجتمعت اليوم دعمًا للوطن وأهله، تخبرنا أن السودان ما زال بخير، وأن أبناء السودان هم أبناء السودان سلمًا وحربًا، وأنهم في الشدة بأسٌ يتجلى، وعلى الود يضمون الشمل أهلا. وكما استجبنا اليوم لداعي الوطن مساندة للقوات المسلحة ووقوفا معها، نؤكد أيضًا أننا جاهزون بذات الحماس وذات الوطنية لمعركة البناء بعد انتهاء هذه الحرب والتي ظهرت بوادر نهايتها على ايدي قواتنا الأبية. وسنبنيه معًا؛ وطنًا شامخًا عزيزًا وقويًا..
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار المخلدين في جنات النعيم باذن الله، والشفاء العاجل الكامل للمصابين والجرحى والعودة الآمنة للمفقودين والمخفيين قسرا.
إخوتي وأخواتي، بناتي وأبنائي:
اسمحوا لي أن أنتهز هذه الفرصة لأتقدم بالشكر والتقدير لجمهورية مصر العربية قيادة وحكومة وشعبًا لتضامنهم ووقوفهم مع أشقائهم السودانيين في محنتهم، والتحية للشعب المصري وهو يستقبل بقلب مفتوح أعدادًا كبيرة من السودانيين الذين ألجأتهم الحرب إلى هذه البلاد الخيرة الشقيقة. وهو موقف سيظل محفورا في وجداننا أيقونة محبة واخوة دائمة باذن الله. كما نقدر بشكل خاص ما نجده من تعاون غير محدود من كل السلطات المصرية ويمتد الشكر والتقدير إلى الإدارات المختلفة بوزارة الخارجية المصرية والتي لم تدخر وسعًا في مساعدتنا وتسهيل مهمتنا.
كما أنتهز هذه الفرصة لأوجه رسالة إلى السودانيين في مصر بأننا في سفارة السودان بالقاهرة نعلم تماما التحديات الكبيرة التي تواجهونها والتي نتجت عن ظروف انتقالكم إلى مصر بسبب هذه الحرب التي فُرضت على السودان وأهله، وقد حضرتم دون أن تعدوا أو تتحسبوا لذلك، ونؤكد أن خدمتكم وتسهيل اوضاعكم هي شغلنا الشاغل ولأجل ذلك نوجه موارد وامكانات السفارة ونحاول تطويع الصعاب والعقبات ما أمكن. وانوه الى اننا كجزء من هذه الجهود، وكما تعلمون، قد مددنا ساعات الدوام بالسفارة حتى السادسة مساءا وتمكنا أن نتحصل من وزير المالية على تخفيض رسوم المعاملات القنصلية بنسبة 50%، كما اننا افتتحنا نافذة لتوثيق المستندات بأختام وزارة الخارجية، ودخلنا في تعاون منتظم مع ممثلي ومسئولي الكثير من الجهات ذات الصلة بقضايا المواطنين هنا مثل وزارة الصحة الاتحادية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وزارة التربية والتعليم، المجلس الطبي السوداني، مجلس المهن الطبية وغيرها في محاولة تقديم الممكن من الخدمات للمواطنين.
ولا بد لي أن اتقدم بشكر خاص للجنة المنظمة لهذا اليوم ولجانها الفرعية والمتعاونين معها ولزملائي في السفارة على الجهد الكبير الذي استمر لفترة ليست بالقصيرة وكنا نأمل أن نتمكن من اقامة احتفالنا هذا في وقت أبكر ولكن لظروف قاهرة لم نتمكن الا اليوم.
الشكر لكم جميعًا على هذه الوقفة المشرفة وأختم هنا حديثي بالدعاء بأن تنتصر بلادنا وقواتها المسلحة الأبية على هذه الفئة الباغية قريبًا وأن يعود للسودان أمنه وسلامه وعافيته وأن نلتقي دائمًا في سوح العطاء والوفاء للوطن.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته