
الخرطوم الحاكم نيوز
أكثر ما عرف به السودان في تاريخه الطويل أن الشعب يصنع الفرص العظيمة، والسياسيون يضيعون هذه الفرص، ولعل الفرصة الأول والأكبر كانت الثورة المهدية في خواتيم القرن التاسع عشر الميلادي، وهي ثورة غير مسبوقة إقليميا وعالميا، فيها توحدت إرادة الشعب، وبتلك الإرادة وباهداف واضحة، ومرجعية إسلامية ووطنية استطاعوا تحرير السودان، وطرد المستعمرين، وكانت تلك أول وأعظم فرصة لبناء وطن قوي متماسك، إلا أن علل القادة بددت كل تلك الأحلام، وتمثلت تلك العلل في عدم قبول السودانيين بعضهم بعضا، والإقصاء، والأوهام الشاطحة، فهزمت الثورة وضاعت الدولة.
ولئن كانت الثورة المهدية هي أول كسب للشعب السوداني يضيعه السياسيون، فإن ثورة ديسمبر المجيدة كانت آخر كسب شعبي يضيعه القادة السياسيون، وضياع ثورة ديسمبر يسأل عنه في المقام الأول قادة قوي إعلان الحرية والتغيير، فعلي الرغم من أن قوي الإعلان لم تكن ذات النصيب الأكبر في إسقاط نظام الإنقاذ، إلا أن أكثر أهل السودان ارتضوها ممثلا للثورة والثوريين، وبذات العلل التي ضيع بها السابقون الثورة المهدية، أضاع القحتيون ثورة ديسمبر، فقام برنامجهم كله علي الإقصاء والأوهام الشاطحة، وبدأوا ممارسة الإقصاء ضد بعضهم البعض، فشتتوا شملهم، ووهن عظمهم، ثم إنكسر، فصاروا يراهنون علي سراب، هو الذي قاد بلدنا إلى دمار وخراب.
وبعدما ضاقت عليهم الأرض كلها علي رحابتها، ووجدت قحت لها في مصر ملاذا آمنا، كان الظن أنها حتى لو لم تستفد من تجارب الآخرين، ومن عبر الزمان، تستفيد علي الأقل من تجربتها الشخصية القريبة، ويبدو أن بعض القحتيين لم يستفيدوا، ولم يتعظوا، والدليل على ذلك البيان الذي اصدروه بمناسبة اجتماعات قياداتهم في العاصمة المصرية القاهرة اليوم الإثنين، وغدا الثلاثاء بإذن الله تعالي، وأقف في بيانهم عند جانب واحد وهو الإصرار علي إقصاء ومحو المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية من الخارطة السياسية السودانية تماما، ومن الوجود كله اذا تيسر لهم ذلك.
وقبل مناقشة هذا الأمر تفصيلا لا بد من الإشارة إلى أمرين مهمين، اولهما أن هذا البيان لا يعبر عن كل قيادة الحرية والتغيير المركزية، فأنا أعلم كثيرين منهم، من الفاعلين والمؤثرين تجاوزوا هذه المراحل، وصاروا ينظرون إلى تحديات الوطن بعيون باصرة وبصيرة، ومثل هؤلاء لا يتورطون في مواقف وبيانات تفرق ولا تجمع، الأمر الثاني ما يوحي به البعض أن هذه الاجتماعات تمت بدعوة من الحكومة المصرية، أو تحت رعايتها، فمصر رغم أنها الأقرب للسودان شعبا وحكومة، وأنها الأكثر معرفة بقضاياه، وتعرف دروب حلولها ومخارجها، لكنها لا تتدخل في شؤون السودان تدخلا مباشرا كما يفعل آخرون بغير علم ولا دراية، وحسب علمي أن بعض قيادات قحت طلبت من الحكومة المصرية السماح لبعض قياداتهم الدخول إلى مصر للقاء والتفاكر، ففعلت، ولم تفعل أكثر من ذلك، ولو كان لمصر رأي في ما يقولون ويفعلون، لنصحتهم بتعديل هذا البيان الذي يصرون فيه علي عزل الإسلاميين ومنسوبي المؤتمر الوطني، وكنت شاهدا علي نصيحة رئاسية مصرية لقيادي سيادي قحتى، تدعوهم إلى التخلي عن سياسات العزل والإقصاء خصوصا لمنسوبي المؤتمر الوطني والإسلاميين.
وبالعودة إلى بيان قحت بشأن اجتماعات القاهرة، ففضلا عن أنه لا الزمان والمكان مناسبين للحديث عن إقصاء آخرين، فإن قيادات قحت لم يعودوا مؤهلين، ولا مقبولين شعبيا للحديث عن أهلية غيرهم، خصوصا الإسلاميين، وأذكر عندما كتبت مقالا قبل نحو أسبوع أو يزيد تحدثت فيه عن شمولية العملية السياسية بعد وقف الحرب، وقلت يجب أن يشارك فيها الجميع، حتى المؤتمر الوطني وقحت، لم يعترض كثيرون علي مشاركة المؤتمر الوطني، ولكن الاعتراضات جلها انصبت علي مشاركة قحت.
ما يجب أن يعلمه قادة قحت اليوم أن معايير الشعب والجيش في السودان قد اختلفت تماما بعد الحرب، فالجميع يحملون قيادات مركزية الحرية والتغيير مسؤولية الحرب، وهذا لم يأت من فراغ، ففي أول حديث لحميدتي بعد الحرب قال إنه يقاتل من أجل الإتفاق الإطاري، ويحسب علي قادة قحت أنه حتى بعد أن تجاوز الدعم السريع الأهداف المعلنة وصاروا يستهدفون أرواح الناس وممتلكاتهم، واعراضهم، وكرامتهم، لم تستنكر قحت ذلك، وهي بالطبع لم تدنه، ولم تشر إليه مجرد إشارة، حتى في بيان الأمس.
وبينما هذا حال قحت، فإن الشعب والجيش يقدرون موقف شباب الإسلاميين وهم يتقدمون صفوف الجهاد مع المواطنين الشرفاء يقاتلون جنبا إلى جنب مع ضباط وضباط صف، وجنود القوات المسلحةدفاعا عن الوطن والعرض والمال والكرامة والشرف.
الإسلاميون في السودان لا يقاتلون دفاعا عن موقف سياسي، ولكنهم يفعلون ذلك عقيدة وجهادا، لذلك سجل لهم التاريخ مواقف لم يسجلها لغيرهم، فبعد انقلاب مايو ١٩٦٩م، كان الإسلاميون أول من لبي نداء الإمام الشهيد الهادي المهدي للهجرة إلى الجزيرة أبا، ولما ضيقت قوات الحكومة الحصار علي الإمام في الجزيرة أبا انسحب المجاهد الوزير الدكتور الأستاذ الجامعي محمد صالح عمر إلى مدينة ربك يرافقه بعض شباب الإسلاميين منهم مهدي إبراهيم خريج جامعة الخرطوم، وعبد المطلب بابكر طالب الثانوي، وفتحوا جبهة للقتال لتغطية خروج الإمام من الجزيرة أبا، واستبسل الدكتور في القتال إلى نفذت ذخيرته كما حدث لأخي الشهيد المهندس جمال زمقان قبل أيام، ولما استشهد الإمام الهادي في طريق الهجرة إلى الحبشة، كان معه صاحبه ورفيقه القيادي الإسلامي الشيخ محمد محمد صادق الكاروري.
وعندما قررت الجبهة الوطنية قيادة عمل مسلح ضد نظام مايو في سبعينيات القرن الماضي، بينما شاركت بعض القوي بمجاهدين أغلبهم مستجلبون، وشارك آخرون بجلب المال والسلاح، شاركت الحركة الإسلامية بخيرة قادتها وشبابها في صفوف القتال، وللرئيس الراحل جعفر نميري مقولة مشهورة بعد انتفاضة يوليو ٧٦ المسلحة، قال “لما دخلنا دار الهاتف وجدنا للأسف الذين قتلوا هم فلذات اكبادنا طلاب جامعة الخرطوم” ومن الذين استشهدوا في يوليو ٧٦ من الإسلاميين، عبدالله ميرغني، وعبد الإله خوجلي، وحسن سليمان، وغيرهم، ومن الذين شاركوا في القتال، إبراهيم السنوسي، وغازي صلاح الدين، ومهدي إبراهيم، ومحمود شريف، وعلي كرتي، وعلي الخضر، وغيرهم، وهذا رصيد للاسلاميين ليس لغيرهم مثله.
وعندما احتلت قوات الحركة الشعبية الكرمك وقيسان في الديمقراطية الثالثة، لم يمنع الجبهة الإسلامية القومية وقوفها في المعارضة من نصرة القوات المسلحة التي تقاتل دفاعا عن الوطن، فسيرت الجبهة الإسلامية قافلة نصرة للقوات المسلحة ووصلت القافلة آخر نقطة يرابط فيها الجيش، وتبرع النواب البرلمانيون الذين شاركوا في القافلة بسياراتهم لدعم القوات المسلحة، وبينما كان هذا هو موقف نواب الجبهة الإسلامية وهم في المعارضة، سجل التاريخ لنائب ووزير حكومي في ذاك الزمان رد علي سقوط الكرمك بقوله “يعني شنو الكرمك سقطت .. ما برلين سقطت قبل كده”
خلاصة القول أن دعوة الحرية والتغيير لاقصاء الإسلاميين وعزلهم، فضلا عن كونها دعوة غير منطقية، ذلك أن الوضع في السودان لا يحتمل بعد ذلك عزلا ولا إقصاء، فإن الحرية والتغيير ليست في وضع يؤهلها لعزل آخرين، خصوصا الإسلاميين الذين يتفوقون عليهم بالموقف المشرف دفاعا عن العرض والأرض والمال، وهم متهومون بدعم ومساندة وتحريض المعتدين.