تأملات – جمال عنقرة – المبادرة الوطنية .. ومعارك ما بعد الحرب

شرحت في مقال سابق كيف بدأت المبادرة الوطنية لحل الأزمة السودانية، وكيف تطورت، وذكرت أنها بدأت بهدف واحد، هو تلافي اندلاع حرب بين الجيش والدعم السريع، ولما انطلقت الحرب، تحول مسعاها إلى وقف الحرب، ولما أعلنت قيادة الجيش أن الحرب شأن عسكري، ويجب أن تحل في الإطار العسكري، ركزت المبادرة علي الحل الشامل للأزمة، وقدمت لذلك رؤية واضحة عبر ورقة المفاهيم الأساسية التي اعدتها نخبة متميزة ومتنوعة من اهل الفكر والعلم والسياسة في السودان.
صحيح أن متغيرات كثيرة قد حدثت، خلاصتها أن الحرب لم تعد هي الحرب القديمة بين الجيش والدعم السريع، ولم تعد تستوعبها المفاهيم القديمة، لا التي حددها الجيش، ولا التي قال بها الدعم السريع، وكما هو معلوم فإن الجيش كان يقول أنها حرب ضد مجموعة عسكرية تمردت، وكان قادة الدعم السريع يقولون أنها حرب من أجل الديمقراطية، وقالوا أنهم يستهدفون قيادة الجيش، وليس الجيش، ولكن الذي حدث أن الدعم السريع حول المعركة من حرب ضد الجيش إلى حرب ضد الشعب، ولم تعد خافية كل الاعتداءات والممارسات المشينة التي ارتبطت بالدعم السريع، ولم يسلم منها احد من أهل السودان، والجديد والخطير في الأمر أن الذين يقاتلون في صفوف الدعم السريع ليسوا هم فقط المسجلين في كشوفاته العسكرية، والاخطر من ذلك، أنهم ليسوا جميعا من اهل السودان، فلقد تم استنفار عشرات الآلاف من دول مجاورة للقتال في صفوف الدعم السريع علي أساس قبلي، بعضهم منوهم بالأرض، وآخرون شجعوهم بالغنائم، وإزاء هذه التطورات الخطيرة تدافعت جموع من أهل السودان لنصرة القوات المسلّحة، وللقتال معها صفا واحدا دفاعا عن الأرض والعرض والمال.
لم تدع المبادرة إلى ما يستدعيه الموقف الوطني من نصرة علي الأرض للقوات المسلحة، ولكنه لم يعد مستنكرا لمبادر أن يقف موقفا منحازا، ذلك أنه لم يعد انحيازا لجهة، بقدر ما هو نصرة للموقف الوطني الذي من أجله انطلقت المبادرة، وعدم دخول المبادرة بكلياتها في هذا الاصطفاف، إنما هو استعداد للمعركة الكبري، معركة ما بعد وقف الحرب، ويحضرني في هذا المقام قول للرسول صلي الله عليه وسلم، بعد ما عاد من إحدي غزواته، فقال “عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر” ولما سألوه صلي الله عليه وسلم عن الجهاد الأكبر، قال، جهاد النفس، فنحن في المبادرة نعد عدتنا للجهاد الأكبر، جهاد من أجل بناء وطن يسعنا جميعا، ونتكاتف مهما اختلفنا لبنائه صفا واحدا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا بإذن الله تعالي.
معالم السودان الجديد المنشود، وضعتها المبادرة كلها في ورقة المفاهيم الأساسية، وأول وأهم هذه المعالم أن يكون في البلد جيش واحد بعقيدة قتالية واحدة وانتماء وطني واحد، وقيادة موحدة، وهذا لا يتحقق بدمج من تبقي من الدعم السريع وحدهم في الجيش، وإنما لا بد، وقبل كل شئ من الفراغ من عمليات الدمج والتسريح لكل قوات الحركات المسلحة، وفق أسس وضوابط واضحة وصارمة.
ولا يكفي القول بأن يكون الجيش علي مسافة واحدة من الجميع، فهذه تعيدنا إلى ذات المربعات القديمة، التي اوردتنا هذه المهالك.
صحيح أن القيادة العسكرية فعلت حسنا عندما استجابت لهتاف الشعب، وازاحت النظام السابق، وجنبت البلاد مواجهات لم يكن يتوقع أحد عواقبها، ولكنها وقعت في خطأ كبير عندما وضعت الجيش في كفة واحدة مع أحزاب سياسية، فيما عرف بالمكون المدني والمكون العسكري، وتلك كانت بداية الكارثة، وأسوأ ما في ذلك أنه مكن لمجموعة محدودة لتمثل كل المدنيين، هي قوي إعلان الحرية والتغيير، والأسوأ منه أنهم لم يستثمروا الفرصة لتمتين عري الوحدة الشعبية التي جسدتها ثورة ديسمبر، بل عجزوا حتى عن الحفاظ علي وحدة قوي إعلان الحرية والتغيير، فخرجت تباعا حتى لم يبق فيها سوي أربع، ثم ثلاث.
ثم وقعت القيادة العسكرية في خطأ ثان لا يقل فداحة عن الأول، فلما خرجت الجماهير تطالب بتصحيح مسار الثورة، واعتصمت أمام القصر الجمهوري، اتخذ السيد البرهان قرارا بحل أجهزة الحكم المعطوبة، لكنه ظل واقفا لنحو عامين يراوح مكانه إلى أن وقعت الواقعة.
بعد الحرب لا مجال للتردد، ولا مجال لعزل أو تمييز أو إقصاء، ولقد قدمت المبادرة آراء واضحة في ذلك، فالمرحلة الإنتقالية محدودة ولمهام محددة، وليس هناك مجال لأي حزب للحكم خلال فترة الإنتقال، فهذه مرحلة الكفاءات الوطنية غير الحزبية، ولا يجوز التحايل بأي واجهات مدنية، لا نقابات، ولا إدارات أهلية، ولا جماعات دينية، لا إسلامية ولا مسيحية، ولا صوفية ولا سنية، ولا تيارات حديثة، فمن أراد ممارسة السياسية عليه أن يشكل حزبا، أو ينضم إلى حزب، ولكن لا مجال للتحايل.
أما بالنسبة للمارسة السياسية فهي متاحة للجميع بلا إستثناء، لكل القوي والأحزاب السياسية، لأحزاب الحرية والتغيير، ولمكونات الكتلة الديمقراطية، وقوي نداء السودان، وللخارجين عن كل هؤلاء، ولا عزل حتى للمؤتمر الوطني إذا أراد أن يخوض الإنتخابات القادمة بذات الإسم، وصناديق الاقتراع هي الفيصل.
وبالنسبة لما يقال عن مفاسد سابقة فإن ذلك يفصل فيه القضاء، ولكن لا مجال لتجريم بدون محاسبات ومحاكمات عادلة.
ولقد افردت المبادرة مساحات واسعة لمعالجة أزمة السودان المستفحلة، وهي أزمة قبول الآخر، وهذه لا بد أن تفرد لها مساحات أوسع في الحوار والعمل، فالسودانيون يجب أن يعلموا جميعا أنه لا فضل لقديم علي قادم، ولا لصاحب ادعاء عربي، علي صاحب زعم أفريقي، ولا لمتعلق بشرف كريم علي غيره، فكلهم سودانيون، والسودان هو القاسم الأعظم بينهم، وهذه معركة تطول، لكنها لا بد أن تبدأ، وبقوة، حتى يفيق السودانيون من سكرتهم التي مزقت صفهم وشتت شملهم، وهذه من معارك المبادرة العظمي، وبالله التوفيق والسداد.

Exit mobile version