الرحمة والمغفرة للدكتور منصور خالد أكثر من كتب بجراة وقوة ووضوح ومباشرة عن الشخصية السودانية، وظهر ذلك في كثير من مؤلفاته، وكان أظهر في كتابه “النخبة السودانية وإدمان الفشل” ثم اعتصر ذلك في مقال، يعتبر أهم ما كتب في هذا الشأن، واعني مقاله الذي حمل عنوان “النواقص الذاتية” وكان قد كتبه في شهر يونيو عام ٢٠١٨م،
وأجد أنا في هذا الظرف الذي لم يمر السودان بشبيه له، ولا يدري أحد كيف يكون الخروج منه، وعبور أزمته، هذا إذا كانت كلمة “أزمة” تكفي للتعبير عن هذا الوضع الكارثي، الذي يستحق أن نواجه فيه أنفسنا بمثل الحقائق التي لم يتردد دكتور منصور يرحمه الله في أن يواجه بها القراء وهم في عز نشوة الإدعاءات الكاذبة، ودعونا نستهل هذه المواجهة بما استهل به الدكتور منصور خالد مقاله المواجهة “النواقص الذاتية”
فكتب دكتور منصور في مستهل مقاله:
“البلاء الأعظم – أن كانت هناك بلوى أعظم مما سبق ذكره – فهي النواقص الذاتية ومنها : نكوص جيل الآباء وجيلنا الذي لحق به عن الاعتراف بكل الأخطاء التي أرتكب وارتكبنا وقادت السودان إلى تهلكة ، رغم أن الاعتراف بالخطأ هو أول الطريق لمعالجته.
تناسل أجيال من المعلقين والمؤرخين الهواة المفتونين بالماضي ، وهو افتتان مشبوه . فلو فتشت في قلوب المتظاهرين بالحنين إلي الماضي الذي يسمونه ” الزمن الجميل ” لوجدتهم قد لهجوا بالثناء علي كل العهود التي أطلت علي السودان بعد ذلك ” الزمن الجميل ” . هؤلاء يضفون على بعض رجالات الماضي ما هم ليسوا احفياء به من تكريم ، وينعتون كل خيبات أولئك ب “الانجازات”، وينسبون لهم صموداً مزعوماً أمام التحديات ، وما التحديات المزعومة إلا أداء الواجب المفروض عليهم .
تضخيم الذات للحد الذي قاد إلى طموح غير مشروع ثم إلى خيلاء فكرية . تلك الخيلاء جعلت أغلب هؤلاء ، لاسيما العقائديين منهم ؛ يتظني عن يقين باطل بأنه مالك الحقيقـــــــة الأوحد .
الغيرة الجيلية وتلك عاهة ليست بجديدة، فأول من فطن لها في نهايات الحرب العالمية الثانية مؤرخنا العظيم مكي شبيكة وعبر عن ذلك في وثيقة وزعها علي أعضاء المؤتمر بوصفه سكرتيرا لمؤتمر الخريجين. قال عالمنا المؤرخ ” أرى اليوم بينكم تباغضاً شخصياً وتحاسداً لا أدرى له سبباً مما يمنعكم من التوجه إلى أداء واجباتكم وما واجباتكم إلا التعاضد من أجل الوطن “.
تفشي تلك الظاهرة في جيل آباء الاستقلال ، خاصة بين الموظفين وهم الفئة التي جاءت من داخلها الغالبية العظمى من المشتغلين بالسياسة . مثال ذلك ادعاء كل من فاته الحظ في الترقي إلى الوظائف العليا أن ترقي الآخر كان بسبب رضاء المستعمر عنه وكأنه يعلى من قدر نفسه بالإيهام بأن عدم ترقيه يعود إلى أنه وطني شريف لا يحظي بدعم المستعمر .
فقدان التسامح الذي لا يميط اللثام عن الجهل بماهية الديمقراطية فحسب ، بل يكشف أيضاً عن جهل مريع بمقوماتها حتى من جانب أكثر الناس ترداداً لهذه الكلمة الطنانه (buzzword) . فالديمقراطية تبيح للناس الخلاف فيما بينهم تاركة لهم مساحة يتحاورون فيها ثم يتفقون أو يختلفون ولكنهم لا يتجادلون في المسلمات أو يشتجرون حول القيم الإنسانية المشتركة ، أو تحدثهم نفوسهم بأن رأيهم هو القول الفصل.
كراهية الآخر في السودان ، خاصة بين نخبه لم تقف فقط عند الانفعالات العاطفية العابرة، بل صارت سلوكاً. مثل هذا السلوك اعتبرته المسيحية خطيئة ففي إنجيل متى “سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأنا أقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات لأن شمسه تشرق علي الأشرار والصالحين” .
شيوع البغض الشخصي للآخر وتلك الِخلة ، من ناحية ، هي ظاهرة مرضية ، ومن ناحية أخرى، عاهة خلقية. فمن الناحية المرضية اعتبر سيقموند فرويد كراهية الشخص للآخر تعبيراً عن رغبـــــــــــة دفينة في تـــدمير الآخـر باعتبـــــاره مصدر تعاســة له . كتاب ” الغرائز وتقلباتهــــــا” (Instincts and Their Vicissitudes) .
التفاخر بالوطنية وهو أمر مشروع في ساحات النصر كما فعل صديقنا الحبيب محمد المكي إبراهيم :
من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنىً أن يعيش وينتصر
من غيرنا ليُقرر التاريخ والقيم الجديدةَ و السِير
من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمة
جيل العطاءِ المستجيش ضراوةً ومصادمة
المستميتُ على المبادئ مؤمنا
المشرئبُ إلى النجوم لينتقي صدر السماءِ لشعبنا
جيلي أنا…..
بيد أن في التفاخر الكاذب – أي التفاخر بغير حق – تشويه للتاريخ مثل قول الشاعر :
كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية
خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية
ما لان فرسان لنا .. بل فر جمع الطاغية.
ولنبدا الوقوف من معركة كرري.
نعم هؤلاء الأسود خاضوا اللهيب بجسارة كما قال الشاعر في صدر البيت إلا إنهـــــــم لـــــــــم ” يشتتوا كتل الغزاة الباغية، بل هم الذين تشتتوا، واستشهدوا، وصحيح أنهم لم يلنوا، لكن جمع الطاغية لم يفر، وانسحب الخليفة عبد الله مع من تبقي، واختار “أم دبيكرات” موقعا لاستشهاده، متوضيا، مستقبلا القبلة.
ولا يزال يحيرني اختيار كرري رمزا للقوة والنصر، وهي غير ذلك تماما، بل هي معركة سقطت فيها اول دولة سودانية حرة مستقلة، وفي ذات الوقت يتجاهلون معارك تجلت فيها عبقرية وشجاعة المقاتل السوداني، مثل شيكان وأبو طليح، والشبكات، يتجاهلون هذه المعارك التي كانت مدخلا لتحرير البلاد من الاستعمار، وبناء اول دولة وطنية، ويمجدون المعركة التي هزمت الثورة واسقطت الدولة، ولكن هكذا نحن، نعاقب الناجحين، ونمجد الفاشلين، نضرب أول الفصل، ونغني للطيش، الطيش عند الله بعيش.
وللأسف الشديد فإن السودانيين غالبا – إن لم يكن دائما – يتجاهلون عناصر القوة، ويتمسكون بما يضعفهم، ويتركون الحقائق، ويلجأون إلى الأكاذيب والأوهام، وليس لأهل السودان مصدر قوة أكثر من التنوع والتباين، وهو الذي صنع شخصية وثقافة مميزة، وهي ما أسماها البروفيسور أحمد الطيب زين العابدين “السودانوية” فيتركون ذلك ويلوذون بادعاءات كاذبة، ويستوي في ذلك العروبة، والافريقانية، والشرف وغيره، مما يتباهي السودانيون بالانتساب إليه، وكله يضعفهم، ويشتت شملهم، يبعدهم عن بعض، ولا يقربهم للذين يتمسحون بهم، وليس لأحد ١٠% مما يزعم من انتماء، والأسوأ من ذلك كله، أن هذه الإدعاءات الكاذبة تقف وراء كل خلافات واختلافات أهل السودان، وهي سبب كل الصراعات والحروب التي دارت رحاها في السودان، ويزيد الطين بلة، أن كلا يدعي أن ما يزعم من انتماء أفضل مما ينتمي إليه الآخرون، ومما يزيد المسألة تعقيدا أن الوجود العنصري والقبلي يتشكل علي التواجد الجغرافي، وفي أحيان كثيرة تتشكل عليه الانتماءات السياسية، وهذا ما يزيد المسألة السودانية تعقيدا.
ولا شئ يمكن أن يجمع السودانيين غير السودان الوطن والهوية، فلا العروبة تجمعهم، ولا الزنجية تجمعهم، ولا حتى الدين يجمعهم، وليس لسوداني فضل علي غيره بأي انتماء مزعوم.
ومن إفرازات هذه الإدعاءات الكاذبة أنها أثرت تاثيرا مباشرا علي العملية السياسية، فكل مكون سياسي في السودان يزعم أنه أفضل من غيره، ولا يكتفي بالسعي إلى الفوز عليه، لكنه يعمل بكل الوسائل – المشروعة وغير المشروعة – للقضاء عليه، وازاحته من الساحة السياسية تماما، وكانما الساحة لا تسعهم كلهم، وهذا هو سبب كل الانقلابات التي وقعت في السودان، وهو سبب كل الصراعات التي جرت ولا تزال تجري في السودان، بما في ذلك الحرب التي تدور الآن.
فالحرب الدائرة اليوم تجسدت فيها تعقيدات المسألة السودانية، ولذلك تعثرت محاولة القوات المسلحة وضع الحرب في إطارها الطبيعي والموضوعي، وكما هو معلوم أنه عندما اشتعلت نار الحرب في الخامس عشر من شهر أبريل الماضي أصرت قيادة القوات المسلحة علي وضع المعركة في إطارها، تمرد مجموعة عسكرية علي القوات المسلحة، ولم تقبل أي تدخل أو وساطة خارج الإطار العسكري، ولكن لا قيادات الدعم السريع، ولا الذين يؤيدونهم من القوي السياسية وبعض المكونات القبلية، ولا الذين يعارضونهم من القوي والمكونات السياسية ينظرون إلى الحرب في إطارها الطبيعي الذي سعت القيادة العسكرية للقوات المسلحة وضعها فيها، فالمناصرون للدعم السريع من السياسيين وهم منتسبو مركزية الحرية والتغيير يعتبرون الدعم السريع مقاتلا من أجل تنفيذ الإتفاق الإطاري، لذلك ايدوا التمرد علي القوات المسلحة من اجل تحقيق هدف سياسي، والذين يدعمون موقف القوات المسلحة ويؤازرونها من القوي السياسية، وهي مكونات الكتلة الديمقراطية ونداء السودان، والاسلاميون، لا يدعمون القوات المسلّحة لأنها تقاتل قوات تمردت عليها، ولكنهم يدعمونها لأنها إذا انتصرت ففي ذلك هزيمة لقوي الحرية والتغيير، وواد للاتفاق الإطاري الذي يعمل علي اقصائهم من الساحة السياسية تماما، وحتى بعض المكونات القبلية تدعم، وتؤيد، أو علي الأقل تتعاطف مع الدعم السريع من منطلق قبلي فقط، وهذا يجسده بصورة واضحة الذين يقاتلون في صفوف الدعم السريع من غير السودانيين، وهؤلاء يزيدون المسألة تعقيدا .
خلاصة الأمر أن الأزمة السودانية لن تحل إلا إذا وضعت في إطارها الطبيعي، وأول ما يجب أن يفعله السودانيون أن يواجهوا الواقع بقوة وصراحة، وأن يفيقوا من الأوهام التي يعيشون فيها، ويتخلوا عن الإدعاءات الكاذبة، ويدركوا أنهم لا شئ يجمعهم سوي السودان والسودانوية، وأن السودان وطن لجميع السودانيين، وأنه يسعهم جميعا بلا تمييز ولا عزل ولا إقصاء.