قيادي بحركة العدل والمساواة السودانية
(الحلقة الرابعة)
“من علمكم أن تكرهوا ألوان بشرتكم؟ من علمكم أن تكرهوا ملمس شعركم؟ من علمكم أن تكرهوا شكل أنوفكم وشكل شفاهكم؟ من علمكم أن تكرهوا أنفسكم من أعلى رؤوسكم الي اخمص أقدامكم؟ من علمكم أن تكرهوا جنسكم؟ من علمكم أن تكرهوا العرق الذي تنتمون إليه؟ لدرجة أنكم لا تريدون أن تعيشوا معأ؟”
(مالكوم اكس)
الحركة القارفية كما ذكرنا في الحلقات الماضية كانت قد أزدهرت وانتشرت بين زنوج امريكا وتوسعت داخل القارة الأفريقية خاصة في الثلث الاول من القرن العشرين. في مقابل انتشار الحركة القارفية أو حركة تطوير الزنوج العالمية (يونيا)، كانت امريكا تشهد الصعود الثاني لحركة الكوكلاس كلان- كي كي كي- وهي حركة تأسست في القرن التاسع عشر وترتكز علي أسس ومفاهيم تفوق وسيادة العرق الابيض علي ما عداه من اعراق. وتميزت باستخدام الاعدامات الميدانية العامة خاصة تجاه السود. وقد كان والد مالكوم اكس احد اتباع قارفي وناشطأ ومدافعا عن حقوق السود، نشاطه هذا لم تنظر اليه منظمة (الكي كي كي) بعين الرضا، فعمدت الي قتله وإلقاء جسده تحت عجلات الترام. وقد حدث هذا وقتما كان عمر مالكوم اكس ست سنوات. وتدمرت أسرة اكس بعد مقتل الوالد، حيث أصيبت والدته بمرض نفسي لم تقوي علي اعاشة ابناءها وقامت الحكومة بإرسال مالكوم اكس واخوته الي بيوت التبني. لاحقا دخل مالكوم اكس السجن بعدة تهم، وفي داخل زنزانته اعتنق الاسلام عبر منظمة امة الإسلام. ومثل هذا نقطة تحول كبيرة في حياته وحياة السود في أمريكا. بالنسبة له لم تكن المنظمة بعيدة عن ما كان يعتنقه والده من أفكار ماركوس قارفي، ففي النهاية تعتبر امة الإسلام نفسها احدي تأثيرات قارفي وافكاره. فلا غرو أن تجد أثر ذلك في خطبه وأحاديثه، خاصة حين يكون الحديث عن اشكاليات الهوية والتحرر من العبودية الفكرية في المجتمعات الأفريقية- الأمريكية. في المقتبس اعلاه الذي ابتدرنا به مقالتنا هذه تحدث مالكوم اكس عن عملية العبودية الفكرية التي جعلت الإنسان الأسود يتنكر لأصله وعرقه بل ويصل الي حد كراهية ذاته. أسئلة مالكوم اكس التحريضية كانت واضحة الإجابة في أن ذلك من جراء عملية غسيل العقول التي مارستها الامبريالية البيضاء علي الإنسان الأسود.
مالكوم اكس الذي ولد باسم مالكوم ليتل وفي طريق استعادة هويته والتنكر لارث الإنسان الابيض غير اسمه الي مالكوم اكس في إشارة الي اسمه الافريقي المجهول الذي اخفي عنه. فيما بعد غير اسمه الي الحاج مالك شباز، وذلك في إشارة الي انه أدرك ذاته وهويته، بعدما حج الي بيت الله الحرام وزار مصر والسودان وعدد من الدول الأفريقية والعربية والاسيوية. لكن مالكوم اكس ظل هو الاسم الطاغي علي ما عداه.
مسألة تغيير الأسماء وارتباط ذلك بتغييب الهوية الأفريقية ظلت هاجسأ كبيرأ لدي الزنوج الامريكيين، خاصة لاؤلئك الذين باتوا يبحثون عن أصولهم التي أتوا منها. وقد عبر الفنان الجامايكي جيمي كليف عن هذا في أغنية ثمن السلام حين قال:-
سرقت تاريخي..
دمرت ثقافتي.. قطعت لساني..
حتي تمنعني من التواصل..
هأنت ذا تتوسط بيننا..
وتفرقنا في نفس الوقت..
أخفيت طريقي في الحياة..
انتزعت مني اسمي..
جعلتني اشعر بالعار..
جعلتني وصمة عار.
اعتبرتني أضحوكة العالم..
فكرت بي كعرض.
أنت تستهزيء بي وتسخر مني..
لكن وقتك الان قد حان..
لذا من الأفضل أن تراقب الساعة.
(جيمي كليف- أغنية ثمن السلام).
عودة الي الشهيد د. خليل ابراهيم مؤسس حركة العدل والمساواة السودانية، في ظني كان لديه احساس بأن هناك ثمة مشكلة تتعلق بصراع الهويات في السودان، فلذا كان شجاعأ حين افصح عن اسمه الحقيقي (حنين) الذي ولد به. وقال بأن الاسم يعني في اللغة العربية (هليل) تصغير (هلال) وتقلب الهاء في لغة الزغاوة حاء واللام نونأ. وعن كيف أتي اسم خليل فقد كشف عن ذلك حين ذكر أن مدير مدرسته في المرحلة الابتدائية هو الذي اختاره له. وهذا نموذج مثالي وحي لسياسة التعريب والاستعراب الممارسة في السودان منذ الاستقلال. وذهب د. خليل عليه رحمة ليبين كيف كان الاساتذة يمنعون التلاميذ من التحدث بلغاتهم المحلية والعقوبة التي كانت تنتظرهم في حالة مخالفة هذه القاعدة هي الجلد وتعليق طوق حول التلميذ الذي يضبط وهو يتكلم اللغة المحلية، وفي حالة مدرسة د. خليل كانت هي اللغة الزغاوية. والطوق يظل علي رقبة التلميذ المعاقب الي أن يسلمه الي تلميذ آخر يضبط بنفس جريرته. وقد ذكر د. خليل أن أشد الأساتذة تطبيقأ لهذه القاعدة كانوا من الزغاوة. والجدير بالذكر أن عملية الاستعراب هذه لم تكن قاصرة علي دارفور فقد كانت تطبق بنفس الطريقة التي ذكرها الشهيد د. خليل عليه رحمة الله، في مناطق أخري من السودان. واذكر أن هناك وزيرأ اتحاديا سابقأ ذكر لي شخصيأ أن اسمه الحالي ليس اسمه الذي ولد بل اسماه اياه معلمه في المدرسة. أما مسألة منع اللغات المحلية من التحدث بها في المدارس فقد عايشتها انا وفي ولاية الخرطوم حيث كنت أعمل معلما في مدرسة عمر بن الخطاب بحي البركة كرتون (كسلا سابقا) في منطقة الوحدة بالحاج يوسف. حيث كانت التعليمات تشدد علي التلاميذ بعدم التحدث بلغة الفور أو أي لغة أفريقية اخري داخل حرم المدرسة. وللغرابة كان اغلب الاساتذة كانوا من الفور تماما مثل حالة د. خليل ابراهيم. شخصيا رغم أنني كنت أصغر الاساتذة سنأ وأقلهم خبرة، لكنني كنت اخالف هذا الأمر واقوم بالتحدث مع التلاميذ بلغتي الفوراوية المكسرة والتي كانت تثير الضحك لدي تلامذتي. وكنت استغل دروس التاريخ والجغرافيا لأتحدث عن الخلل الحادث في السودان وعن قمع الثقافات المحلية داخل الدولة السودانية.
وثمة ملاحظة هنا انه وقبل انطلاق الثورة المسلحة في دارفور، بدات بعض الشعوب الأفريقية في العودة والبحث والتنقيب عن لغاتها المحلية ومحاولة جعلها لغات مكتوبة، وانتشرت مدارس اللغة الام مثل مدارس تعليم لغة الفور والزغاوة والمساليت. وهذا يوضح ان هناك ازدياد في الوعي بأهمية اللغات المحلية والحفاظ عليها في المجتمعات الأفريقية في السودان، خاصة في ظل هيمنةوسيطرة الهوية الواحدة واللغة الأحادية علي ما عداها من لغات في البلاد.
(يتبع)