
الخرطوم الحاكم نيوز
يروي عن الشريف محمد الأمين ناشر الدعوة الإسلامية في بعض مناطق جبال النوبة، أنه لما وصل مدينة الليري في الجبال الشرقية وجد الشيخ عبد الباقي البرناوي قد أدخل عددا كبيرا من أهالي المدينة وما جاورها في دين الإسلام، وكان الشيخ عبد الباقي من القادرية، وساعة وصول الشريف محمد الأمين وجدهم في حلقة ذكر، عامرة بالنوبات والطارات فلما انتهت الحلقة قال الشريف للشيخ البرناوي، (إنت الناس ديل عايزهم يعبدوا، ولا يرقصوا) فرد عليه الشيخ عبد الباقي (نحن يا مولانا ندرشهم ليكم دراش، وانتوا تعالوا نعموهم) وبفقه الشيخ عبد الباقي البرناوي له الرحمة والمغفرة أتعامل مع كثير من الأشياء والقضايا، نحمد للذين (يدرشون) ونعمل بعدهم علي التنعيم، وهكذا أنظر إلى سلام جوبا الذي وقعت اتفاقياته بين الحكومة وعدد من الحركات المسلحة وغير المسلحة عبر مسارات عدة، فمثلما لا أجد كل ما خرج به سلام جوبا خيرا، لا أراه كله شرا كذلك، ولهذا وصفته في مقال سابق أنه سلاح ذو حدين، وبرغم أني دائما متفائل، إلا أن أهلنا المزارعين يقولون (الخريف اللين من بشايرو بين) وحتى هذه اللحظة لم نر مبشرات خير كافية للاطمئنان لهذا السلام هكذا، بل نري محاذيره ومخاطره أعظم من مبشراته، ولذلك نلفت الأنظار بقوة، ونخشي من أن يتحول سلام جوبا إلى هجمة مرتدة، تمزق شباك الوطن، كما مزقتها من قبل أهداف هجمات نيفاشا المرتدة، فخسرنا الوحدة، ولم نكسب السلام، ولو حدث هذه المرة مثلما حدث في نيفاشا – لا قدر الله – فستكون الهزيمة كارثية قد نفقد معها الوطن كله.
ولقد تعودت في مثل هذه الحالات أن أفكر بطريقة الصحابي الجليل حزيفة بن اليمان رضي الله عنه، وكان حزيفة قد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له، الناس يسألون عن الخير، وأنا جئت أسألك عن الشر، فهل من بعد هذا الخير شر؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم، نعم وفيه دخن، ثم أوضح له أن دخنه رجال لا يستنون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يهتدون بهديه، ولذلك دعونا نبدأ بالوقوف عند شرور سلام جوبا التي ظهرت، وكذلك المحتمل ظهورها، حتى نعالج ما ظهر، ونتفادي ما لم يظهر بعد بحسن التفكير والتدبير والتصرف، من بعد توفيق الله تعالي.
وأولي مشكلات سلام جوبا أنه لم يبدأ بداية صحيحة، فالجبهة الثورية كانت من مكونات قوي إعلان الحرية والتغيير الحاضنة السياسية للثورة والحكومة، لكنها شقت طريقا بعيدا عنها بزعم أن القائدين لقوي الإعلان لم يولوا أمر السلام الإهتمام الذي يستحقه، وكانت مكونات الجبهة تعاني صراعات في داخلها، أولها الصراع الذي انشق به صف الحركة الشعبية قطاع الشمال، فصار فيها فصيلان، فصيل يقوده السيد مالك عقار، وفصيل يقوده السيد عبد العزيز الحلو، وصار كل فصيل يفاوض الحكومة بمعزل عن الآخر حول ذات القضايا، وبذات الأفكار تقريبا، ثم اعتزلت مجموعة الحلو الحوار مع الحكومة، ووضعت لها شروطا ودروبا مختلفة للحوار، لا يزال التفاوض يجري حولها، بعد ذلك خرج السيد منى أركو مناوي من الجبهة الثورية، وأدار حوارا منفصلا مع الحكومة، ووقع علي اتفاق منفصل هو ذات ما وقع عليه الآخرون ثم سعي إلى تكوين جبهة جديدة، وكسب حتى الآن توقيع السادة التوم هجو، والأمين داود، ومحمد سيد أحمد الجاكومي، ومن مشكلات سلام جوبا أن أغلب المسارات ظهر مناهضون لها ممن يعنيهم المسار، وهناك قوي فاعلة، وشريكة في الحكومة تحفظ بعضها علي الإتفاق، وبعضها أعلن معارضته له، منها حزب الأمة القومي، والحزب الشيوعي السوداني، هذا غير عدم انشغال أكثر أهل السودان بما تم في جوبا، ولقد ظهر ذلك جليا في الإستقبال الفاتر لرجال السلام وممثلي الحركات الذين عادوا إلى الخرطوم من جوبا الخميس الماضي.
ومع ذلك يبقي مجرد دخول أي فصيل عسكري أو معارض في حوار سلام مع الحكومة يعتبر كسبا كبيرا، أما الكسب الأكبر، والذي بات واضحا، أن سلام جوبا فتح الطريق أمام معالجات شاملة لكل أدواء وعلل الحكومة والحاضنة السياسية، فهو أولا يكسر احتكار مجموعة محدودة مسيطرة للحاضنة السياسية، ومحاولتها توجيه مسار الثورة والحكومة والبلد كلها، إلى حيث يتجه هواهم، فتتوسع بالسلام الحاضنة السياسية لتشمل بالإضافة إلى مكوناتها الحالية، الموقعين للسلام وكل الوطنيين السودانيين من الذين لا تحوم حولهم أية شبهات فساد، ويقود ذلك إلى الاصطفاف حول برنامجي وطني تتوافق عليه أوسع قاعدة ممكنة من أهل السودان، ويتيح سلام جوبا أيضا فرصة إعادة تشكيل كل أجهزة الحكم التي تكونت في المرحلة السابقة وكانت واحدا من الأسباب الأساسية في كل معاناة البلد والمواطنين، فسوف يترتب علي سلام جوبا حل مجلس الوزراء، واعفاء كل الولاة، ومراجعة كل قيادات الحكومة المدنية الذين تم تعيينهم خلال الفترة الماضية، وهؤلاء هم الممكنون الجدد علي قول السيد مناوي، وتكون هناك أسس ومعايير جديدة ومنطقية، ومقبولة للترشيح للمواقع السياسية والتنفيذية، والخدمة المدنية، أهما الكفاءة والخبرة، والخروج تماما من دائرة المحاصصات الحزبية الضيقة التى كانت أكبر علل المرحلة الماضية، وبذلك يكون سلام جوبا قد هيأ البلد كلها للدخول في مرحلة جديدة، يمكن أن تعبر فيها وتنتصر بإذن الله الناصر النصير.