
في المشهد السوداني الذي تعصف به التعقيدات السياسية والإعلامية، تصدر اعتذار الأستاذ خالد الإعيسر للصحفيين يوم أمس كحدث أثار ردود فعل واسعة بين التأييد والانتقاد. اعتذارٌ لم يكن مجرد جملة عابرة، بل لحظة كشفت عن سؤالٍ أعمق: أين يقف الإعلامي السوداني بين الخطأ والصواب؟ وهل لدينا فضاء إعلامي منضبط، أم أننا نعيش في بيئة تستطيع فيها الكلمة بحسن نية أو بسوئها أن تتحول إلى أزمة حقيقية الإعيسر، وهو أحد الوجوه الإعلامية ذات الحضور والجرأة، خرج باعتذار، وهو موقف يُحسب له في وقت ندر فيه أن يعترف إعلامي بخطأ أو سوء تقدير. فالاعتذار قيمة من قيم المهنية، لكنه أيضاً يفتح باباً آخر لا بد من التوقف عنده: هل الخطأ في الكلمة وحدها… أم في البيئة التي تُسمح فيها الكلمة بأن تتحول إلى هجوم مباشر على الدولة أو رأسها أو وزرائها وعلى الهواء مباشرة؟ في دول العالم، لا يجرؤ إعلامي على توجيه نقد مباشر وحاد لرأس الدولة أو الوزراء دون ضوابط مهنية صارمة، ودون حسابات دقيقة لموقعه وتأثيره. ليس لأن الإعلام خائف، بل لأن المؤسسات هناك تعمل وفق قواعد واضحة، ومواثيق شرف محترمة، ونظام مساءلة لا يسمح بالفوضى.أما في السودان، فبات البعض يرى وربما يعتقد أن الميكرفون مفتوح بلا سقف، وأن الهواء المباشر مساحة يمكن فيها قول أي شيء، حتى وإن مسّ هيبة الدولة أو تجاوز حدود النقد المهني. وهذه ظاهرة تحتاج إلى معالجة لا تقل أهمية عن الاعتذار نفسه.
إن جرأة الإعيسر معروفة، وصراحته ليست محل خلاف، لكنها أحياناً تصطدم بواقع يحتاج إلى قدر أكبر من الانضباط الإعلامي، خصوصاً في توقيت تمر فيه البلاد بحرب، وانقسامات، ومحاولات خارجية للنيل من مؤسساتها. ولذلك فإن خطوة الرجل بالاعتذار تشير إلى نضج، وإلى أنه يدرك قيمة تأثير الكلمة، خاصة حين تصدر من شخصية ذات وزن في الوسط الإعلامي.المطلوب اليوم ليس جلد الإعيسر ولا رفعه فوق النقد؛ المطلوب أن نعيد النظر في البيئة الإعلامية كلها: هل لدينا ميثاق موحد؟ هل لدينا قواعد مهنية تُلزم الجميع؟ هل لدينا وعي بأن النقد بلا ضوابط، وتوجيه الاتهامات أو التلميحات لرأس الدولة أو الوزراء عبر الهواء، لا يحدث في أي دولة إلا عندنا؟ إن المعركة ليست معركة ضد شخص، بل معركة لترتيب البيت الإعلامي. فالكلمة مسؤولية، والميكرفون أمانة، وحماية الدولة ليست خصماً على حرية الصحافة، بل هي الأساس الذي يحفظ للصحفي نفسه حقه في الحديث.فاعتذار الإعيسر خطوة شجاعة تُحسب له، لكنها يجب أن تكون بداية لمرحلة أكثر نضجاً في المشهد الإعلامي السوداني. مرحلة يفهم فيها الجميع أن الإعلام قوة وطنية، وأن النقد البناء مطلوب، لكن التهور في تناول الدولة ورموزها على الهواء مباشرة ليس بطولة ولا مهنية… بل ثغرة لا يستفيد منها إلا أعداء السودان.



