أخر الأخبار

دكتور صلاح دعاك يكتب : أستاذي الذي أُحيل إلى التقاعد… ولم يتقاعد عن الإبداع

في عالمٍ تتسارع فيه الأيام كأنها تلهث، يظل العمر عند الغرب معيارًا لا يُقاس بعدد السنوات، بل بما يُنتجه العقل وتُبدعه اليد. ففي دراسة أمريكية نُشرت في مجلة نيو إنجلاند الطبية (NEJM)، تبيّن أن أكثر الأعمار إنتاجًا في حياة الإنسان تمتد بين الستين والسبعين عامًا، وأن العقد السابع والثامن من العمر يأتيان في المرتبتين الأولى والثانية من حيث ذروة العطاء والإنجاز.
فالفائزون بجائزة نوبل يبلغ متوسط أعمارهم اثنين وستين عامًا، والمديرون التنفيذيون لأكبر شركات العالم يتجاوزون الثالثة والستين، ما يدل على أن أفضل سنوات العمر هي تلك التي تسبق السبعين، حين تكتمل التجربة وتتوهج الحكمة. هناك في الغرب، يرون أن النضج لا يعني أفول العمر، بل اكتمال الثمرة، وأن الستين ليست نهاية الطريق، بل بدايته الحقيقية.
لكن المفارقة المؤلمة أننا هنا، في السودان، كما في كثير من بلدان العالم الثالث، نُساق إلى التقاعد ونحن في ذروة العطاء، لا لأن الإنتاج قلّ أو الرؤية خبت، بل لأن النظام يريد “إفساح المجال” لغيرنا، دون أن يُدرك أن إقصاء الخبرة ليس توسيعًا للفرص، بل تضييقًا لأفق الإبداع.
تلك السياسات التي ورثناها من الاستعمار كانت فخًّا ناعمًا، إذ وُضعت لتُشيخ المؤسسات لا الأفراد، ولتقطع شريان الخبرة عند ذروة تدفقه. فالغرب الذي صاغ لنا قوانين الخدمة المدنية والتقاعد، هو ذاته الذي يحافظ على شيوخ الخبرة في بلاده، ويُجلّ نضج الحكمة، ويُدير مؤسساته بعقول تجاوزت السبعين والثمانين.
ويُروى أن الناظر أبو سن، زعيم الشكرية، حين زار بريطانيا ودخل مجلس اللوردات، رأى أغلب أعضائه فوق الثمانين عامًا، بعضهم يمشي متكئًا بعصاه، وآخر يربط كيس القسطرة في ساقه، ومع ذلك يناقشون قضايا الأمة بعقول متقدة وبصيرة حاضرة. فالتفت إلى الملكة وقال لها متعجبًا:
“ولماذا تصرون أن ينزل موظفنا عن الخدمة في الستين؟”
لقد استشعر الناظر الحكيم ما وراء تلك السياسة من فخٍّ خفيٍّ، يراد به أن تتجدد الوجوه لكن تتراجع الخبرات.
وها هو الزمن يؤكد صدق حدسه. فالعالم اليوم يقوده رجال تجاوزوا السبعين، ومع ذلك ما زالوا في مقدمة العطاء. فـ رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يبلغ من العمر ثمانية وسبعين عامًا، وبوتين اثنين وسبعين، ورئيس باكستان أكثر من ستة وسبعين عامًا، والقائمة تطول. جميعهم فوق السبعين، ومع ذلك يواجهون أعقد الملفات ويقودون بلادهم في أحلك الأوقات.
بل إن الملكة إليزابيث الثانية نفسها توفيت في عمر الثامنة والتسعين، ولم تتوقف عن إدارة شؤون البلاد إلا ثلاثة أيام فقط قبل وفاتها، فقد ظلت تعمل دون انقطاع منذ العام 1953، يوم تُوجت خلفًا لوالدها. سبعة عقود من العطاء بلا كلل، وكأنها أرادت أن تُثبت أن العمر لا يُقاس بالزمن بل بما يُنجز.

وحقيقة ما دفعني إلى كتابة هذا المقال أنني شاهدت مؤخرًا في الوسائط خبر إحالة أحد أساتذتي في كلية الطب إلى التقاعد. كان من أميز الأطباء الذين عرفتهم، عبقريًّا متقد الذكاء، متدفق العلم، واسع الأفق، وما زال كذلك حتى اللحظة. شعرت حينها وكأن مكتبةً عامّة أُغلقت فجأة، وأُضرمت النار في كتبها. كيف يمكن لعقلٍ كهذا أن يُحال إلى المعاش؟ كيف نُقصي منارةً تضيء لأجيال الأطباء القادمين؟

إن نزول مثل هذه القامات إلى المعاش لا يُعدّ احترامًا للنظام، بل خسارة للوطن. فالمعلم لا يُحال إلى التقاعد كما تُحال الآلات القديمة إلى المخازن، والأستاذ والطبيب والباحث لا يتقاعدون إلا حين تتقاعد قواهم أو تختار أرواحهم السكون. أمّا طالما بقي فيهم نبض عطاء، فمكانهم بيننا، لأنهم الثروة التي لا تُشترى، والمكتبات التي تمشي على الأرض.

في زمنٍ تعاني فيه بلادنا من نقص الكوادر المؤهلة في شتى المجالات، يصبح الإبقاء على الخبرات واجبًا وطنيًا، لا مجاملةً لأحد، بل حفاظًا على ثروتنا البشرية التي تُبنى بها الأمم.
إننا لا ندعو إلى بقاء الجميع في مواقعهم إلى ما لا نهاية، ولكننا ندعو إلى أن نُفرّق بين من اكتفى ومن ما زال يُعطي، بين من أرهقه الزمن ومن أنضجته التجربة.
فلنُعد النظر في قوانيننا، ولنُدرك أن العمر ليس عائقًا أمام الإبداع، بل هو الدليل على نضج الفكر وعمق البصيرة.

فكم من شجرةٍ مثمرةٍ ازدادت حلاوة ثمرها حين شاخت جذورها، وكم من عقلٍ أضاء حين شابت فكرته الأولى…
ولعل أجمل ما يُقال في هذا السياق: إن بعض البشر كلما تقدم بهم العمر، ازدادوا شبابًا في عطائهم، لأن الحكمة — في نهاية المطاف — هي أسمى درجات النضج الإنساني.

وفي وطني، ما زلت أؤمن أن الخبرة شجرة لا تُقطع في ربيعها، وأن العقول التي أنضجتها التجارب لا تُحال إلى التقاعد، بل تُستبقى لتُضيء دروب الأجيال القادمة. فالأوطان لا تنهض بالدماء الجديدة وحدها، بل بجذورٍ عتيقةٍ تمتدّ في عمق الأرض، تمنحها الثبات والعطر والظل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

9 − 6 =

زر الذهاب إلى الأعلى