أخر الأخبار

امل ابو القاسم تكتب : الفاشر… مدينة تنزف ولا تنكسر

في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار نحو مدينة الفاشر، العاصمة التاريخية لإقليم دارفور، يتجدد الألم وتتعمق الجراح. مشاهد القتل والتنكيل والمجازر التي لا تفرّق بين شيخٍ وطفلٍ، تعيد إلى الأذهان سنوات طويلة من المأساة التي عاشها الإقليم، لكنها اليوم تتفاقم في ظل حربٍ أنهكت الوطن وأوجعت إنسانه.

كم هو مؤسف ما جرى ويجري الآن في الفاشر، من فظائع تُنقل على الهواء، وصور تفطر القلوب وتدمي الوجدان، وثقتها كاميرات المليشيا في مشهدٍ يستفز الضمير الإنساني. ومع سقوط جزء من المدينة أو جلها، لا يكمن الأسف في ذلك السقوط نفسه، فالكثير من مدن السودان استُبيحت بالطريقة ذاتها وأكثر — دونكم الجزيرة والخرطوم اللتان شهدتا مجازر فاقت الوصف.
لكن، وبرغم الندوب العميقة، تعافت تلك المدن ووقفت على قدميها، وستنهض الفاشر كما نهضت من قبل المدن الجريحة، فالنصر لا يكون لمن يحمل السلاح الغادر، بل لمن يتمسك بالأرض والكرامة.

غير أن المؤسف أن السيناريو ذاته يتكرر للمرة الألف، وسط صمتٍ دوليٍ مريبٍ، ترك للمليشيا الحبل على الغارب تعبث كما تشاء. وما كان لها أن تتوحش لولا تغذية رعاتها وتواطؤ من يتخذون من الحرب وسيلة لتصفية الحسابات على حساب أرواح الأبرياء.
ومع ذلك، فإن صمود الجيش السوداني ورجاله الأشداء في الفاشر، الذين صدّوا مئات الهجمات بثباتٍ وشرف، يظل شاهدًا على أن النهاية لم تأتِ بعد، وأن هذه الجولة ليست سوى صفحة عابرة من كتاب المقاومة الوطنية الطويل.

لقد خسر المجتمع الدولي أخلاقياته حين اكتفى بإداناتٍ لفظيةٍ باردة، لا تُسمن ولا تُغني من دماء. وحتى عندما قرر الفعل عبر الرباعية والدعوات للمفاوضات، تعامل مع الجيش كما يتعامل مع المليشيا، في تجاهلٍ فادحٍ لطبيعة الحرب ومن أشعلها.
فالجيش، كما هو معروف، لا يستعدي المدنيين بل يدافع عنهم، وهذه مهمته الأساسية في كل الدنيا. دعوات وقف الحرب ينبغي أن تُوجّه نحو طرفٍ واحدٍ هو المعتدي، لا أن يُكافأ الجناة بإقاماتٍ فاخرة ولقاءاتٍ سياسيةٍ براقة.

كل قطرة دمٍ سالت في السودان، وكل دمعةٍ انهمرت من أهل دارفور، وكل أنينٍ من الفاشر، هو وصمة عارٍ على جبين المتفرجين الصامتين. وصباح اليوم فقط، غرد أحدهم داعيًا المليشيا إلى “حماية أهل دارفور”، فاستجابوا على طريقتهم المجرمة، مصورين مقاطع لإعداماتٍ ميدانيةٍ رمياً بالرصاص، في مشهدٍ يُختصر فيه انحدار القيم إلى دركٍ سحيق.

ويظن هؤلاء الأوباش أن بقتل وأسر الإعلاميين الشرفاء الذين فضحوا جرائمهم سيكممون الأفواه، وما علموا أن كل كاميرا وكل قلم في السودان هو إعلامٌ وطنيٌ لا يلين، وسلاحٌ من نوعٍ آخر لا يعرف التراجع.

إن ما يحدث في الفاشر لا يخصّ دارفور وحدها، بل يخصّ السودان كله بل بعض الدول من لم يتحسس موقعه اليوم سيفاجأ غداً بأن النار قد وصلت إليه. غير أن الثقة راسخة بأن الفاشر ستنهض كما نهضت المدن التي ظنّوا أنها انتهت.

وبعظمة رجال الجيش والقوة المشتركة والمستنفرين، ومن خلفهم الشعب السوداني — إلا من أبى — ستعود الفاشر، وستعود دارفور، وسينهض الوطن من رماده مهما طال السفر.
أما أولئك الذين يقفون متفرجين يحررون بياناتٍ جوفاء باردة، فسيكتب التاريخ عنهم أنهم اختاروا الصمت حين كان الوطن ينزف.

ستظل الفاشر عنواناً لصمود السودانيين، وجرس إنذارٍ للعالم الذي صمّ أذنيه عن صوت الحق.
وسيبقى السودان، برغم الجراح، وطنًا لا يموت، لأن فيه رجالًا ونساءً لا يرضون بالذلّ، ولا يعرفون الهزيمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

11 − 10 =

زر الذهاب إلى الأعلى