أخر الأخبار

دكتور صلاح دعاك يكتب : الآباء و الابناء : جدلية الطاعه و الإقناع

تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي اليوم بالكثير من التنظير حول كيفية تعامل الأبناء مع آبائهم، غير أن معظم هذا الحديث يغفل البعد الديني والروحي الذي حفظ هذه العلاقة وجعلها مختلفة عن كل العلاقات الأخرى. فالعلاقة بين الوالدين وأبنائهما ليست مثل علاقة الأصدقاء بأصدقائهم، ولا كالإخوة فيما بينهم أو علاقة الموظف بمرؤوسيه، ولا كسائر الروابط الاجتماعية. إنها علاقة قدّسها الله سبحانه وتعالى، وربط الالتزام بها بالجنة، بينما جعل التفريط فيها سببًا للنار والعقوبة المعجلة في الدنيا.
الطاعة في هذه العلاقة لا ترتبط باقتناع الابن بما يقوله الوالدان. صحيح أن للابن أن يسأل عن السبب، لكن إن لم يقنعاه، فعليه التنفيذ مباشرة ما لم يكن في الأمر معصية أو منكرًا صريحًا. فالأصل أن يطيع أولًا ثم يسأل لاحقًا. وهنا يتجلى سرّ حفظ الله لهذه العلاقة، لأنه بها تُصان الحقوق وتُحفظ التراتبية الاجتماعية، ولو تركت للأخذ والرد والجدال لانقلبت الأسرة إلى صراعٍ يفقد المجتمع توازنه. يكفي أن نستحضر قصة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، حين قال له: “يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك”، فجاء الرد المدهش من الابن: “يا أبت افعل ما تؤمر”. لم يجادله، ولم يسأله: أهو وحي أم مجرد رؤيا؟ بل أجاب بكل يقين: افعل ما تؤمر. إنها أعلى درجات البر، أن يبذل الابن روحه استجابة لرؤيا رآها أبوه.
ولكي يصل الأبناء لهذه الدرجة لابد أن يعلموا أولًا أن طاعة الآباء هي فرض من الله علينا وتأتي بعد الشرك مباشرة، فهي إذن عبادة. وثانيًا، على الأبناء أن يعلموا أنه ليس في هذا الكون من يريد الخير والصلاح لهم أكثر من والديهم، حتى وإن عبّرا بصورة مختلفة، لكن نيتهما وإحساسهما تجاه الأبناء هو الخير وليس غيره.
جعل الله الجنة تحت أقدام الأمهات، لأنه يعلم أن ما يطلبه الوالدان قد يكون صعبًا أحيانًا على الأبناء، لكن من وُفق إلى طاعتهما فهو من الفائزين. وقد يكون الابن أعلى علمًا أو منصبًا أو شأنًا من والديه، لكن عند الدخول عليهما عليه أن يتجرد من رتبته ومنصبه وسلطانه، ويخضع لهما ابتغاء مرضاة الله ورضاهما. حتى كلمة صغيرة نهى الله عنها: “فلا تقل لهما أف”، واختار الله حرف الفاء تحديدًا لأنه أخف الحروف وألينها، إشارة إلى منع مجرد إظهار الضيق أو الامتعاض أمامهما.
بر الوالدين ليس إحسانًا عاديًا، بل هو واجب ديني وأخلاقي قُرن بعبادة الله: “واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا”. وعلى عكس بقية العلاقات التي تقوم غالبًا على تبادل المنافع والمصالح، فإن حب الوالدين ورعايتهما غير مشروط، ولا يقاس بما يقدمانه من عطاء دنيوي. يمكن أن يكون الوالد صديقًا لابنه، وهذه منزلة عظيمة، لكن على الابن ألا يغفل أن والده أو والدته ليسا مجرد صديقين، بل هما الأصل والقدوة، ويجب أن يظهر ذلك في نبرة صوته، ولغة جسده، وكل تعامله معهما.
من أبرز القضايا التي تثير الخلاف بين الآباء والأبناء قضية الزواج، وقد أثبتت التجارب أن الزواج الذي يتم بتوافق أسري وبرضا الوالدين يكون في معظم الأحيان الأنجح والأكثر بركة. وهذا لا يعني أن يختار الوالدان شريك الحياة مباشرة، لكن رضاهم علامة مهمة على التوفيق والاستقرار في الحياة الزوجية.
ومن المهم أن نعي أن بر الوالدين لا علاقة له بمقدار ما قدمه الوالد من مال أو نفقة. فقد يكون الأب ثريًا ينفق بسخاء على أبنائه، ومع ذلك يخرج أحدهم عاقًا لا يحترمه، بينما قد يكون الأب فقيرًا بالكاد يجد قوت يومه، ومع ذلك يطيعه أبناؤه ويحفظون له مكانته. البر إذن علاقة روحية حفظها الله، وجعل جزاءها الجنة.
ولا يرتبط البر بصلاح الوالدين أو تقواهما. فقد ذكر القرآن عن ابن نوح أنه عصى والده النبي الكريم، ومع ذلك أمر الله نوحًا بألا يعده من أهله. فالبر عبادة أمر الله بها، بصرف النظر عن حال الوالدين . بل إن طاعة الآباء لا تقتصر على الوالدين المباشرين فقط، بل تمتد إلى سلسلة الآباء والأجداد، كما في قوله تعالى: “ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم او بيوت آبائكم”، إذ تشمل الآية الأب والجد والجد الأكبر، وكذلك الأمر في ذكر الأمهات والجدات. أي أن الاحترام والبر يجب أن يشمل كل من هم في سلسلة الآباء والأمهات.
وهناك علاقة اجتماعية منسية في السودان، وهي ما يقوم به الأخ الأكبر أو الأخت الكبرى. ففي الريف كثيرًا ما يترك الأخ الأكبر دراسته ليتفرغ للعمل في الحواشات أو في مهن شاقة ليكفل الأسرة ويساعد إخوته وأخواته على الدراسة. هذه علاقة عظيمة لكنها ليست محمية بقدسية دينية مثل بر الوالدين، بل تعتمد على التربية الحسنة والاعتراف بالفضل. ومع الأسف، أحيانًا يُتهم هؤلاء بالتقصير أو الفشل، بينما هم في الحقيقة من بذلوا الغالي والنفيس من أجل إخوتهم، وربما كانوا الأذكى بينهم لكنهم ضحوا من أجل الأسرة.
وبرّ الوالدين يحتاج إلى أسلوب خاص في التعامل. فالأبناء مطالبون بأن يفصلوا بين الطاعة والإقناع، فالبر لا يتوقف على اقتناعك بما يقولانه، بل على طاعتك لهما في غير معصية. وفي الحوار يجب استخدام اللطف دائمًا، فإذا لم يسمعك والدك حاول مجددًا بلطف وصوت منخفض، وإن لم يستمع فلا تُلح بإزعاج. ومع الأم إن طلبت شيئًا دون تبرير، نفّذ أولًا، ثم اسألها بعدها بلطف: “يا أمي ممكن أعرف السبب؟ أحب أن أفهم حتى أنفذ الأمر بشكل أفضل”. وفي كل الأحوال، اجعل نيتك أن ما تفعله هو طلبًا لرضا الله قبل رضا والديك، فهنا يتحول كل فعل صغير إلى عبادة.
وهنا ينبغي التنبيه إلى أن هذه الدعوة ليست مبررًا لأن يفرض الآباء رأيهم دومًا على أبنائهم. فالحوار والتفاهم بين أفراد الأسرة أساسٌ لبناء علاقات صحية، لكننا في مجتمعات يغلب عليها الجهل والأمية ـ حيث تتجاوز نسبتها الثمانين بالمئة ـ نجد فوارق واسعة في التعليم والفهم بين الأبناء وآبائهم. وهذا لا يبرر للابن المتعلم أن يترفع على والديه غير المتعلمين أو أن ينظر إليهما باستعلاء. بل عليه أن يجادلهما بالحسنى وبما يليق من الاحترام، فإن لم يقتنعا فعليه أن يرضيهما بما يستطيع لا أن يخالفهما. كما يجب أن نتذكر أن التعليم وحده لا يعني الفهم الكامل، فقد يكون الأب أو الأم غير متعلمين، لكنهم أكثر خبرة بالحياة وتجاربها من أبنائهم المتعلمين. ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا و قد يكون والداك غير متعلمين لكنهما أكثر منك ذكاء في بعض النواحي و لا سيما أن علماء النفس قد اوضحوا أن الذكاء ليس نوعًا واحدًا يُقاس بالشهادات، بل هناك الذكاء الأكاديمي، والذكاء الاجتماعي، والذكاء العاطفي. وقد نجد شخصًا ضعيفًا في التحصيل الأكاديمي لكنه متفوق في الذكاء الاجتماعي أو العاطفي، فينجح في مجالات لا يتقنها المتعلمون. وهذا يفسر أن الحكمة والخبرة لا تُكتسب دائمًا من مقاعد الدراسة، بل من مدرسة الحياة.

الخلاصة أن البر ليس أن تفهم كل ما يطلبه والداك، ولا أن تجادلهما حتى تقنعهما أو يقنعانك، بل أن تطيع وتلين وتتحمل، حتى إن لم تسمع التفسير أو لم تُشرح لك الأسباب. إنه طاعة مقرونة بالصبر، ورحمة مقترنة بالتواضع، وجسر يعبر بك إلى الجنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 × أربعة =

زر الذهاب إلى الأعلى