أخر الأخبار

سارة الطيب تكتب … الجزيرة جرحٌ لا يلتئم وصوت لا ينكسر

وانا اتابع (التايم لاين) للعناصر النشطة في كيمياء التشظي السودانية وتقلبات الطقس السياسي والقرارات التي تتخذ في حق الوطن جال خيالي في قلب السودان، حيث تتعانق الأرض والسماء بلون الزرع والمطر، هناك أرض اسمها الجزيرة.. كانت دائماً سلة غذاء البلاد، ومكمن خيرٍ يتدفق بصمت، دون منٍّ أو أذى. لكن الجزيرة لم تنل ما يليق بها من رعاية، بل واجهت خذلاناً متواصلاً عبر مراحل التأريخ، حتى غدت جرحاً نازفاً في خاصرة الوطن.
في المرحلة الأولى، كانت الجزيرة ضحية إهمالٍ ممنهج. تآكل مشروع الجزيرة، ذلك العملاق الزراعي الذي كان مفخرة القارة الإفريقية، وتُرِك ينهار دون أن تهتز شعرة في رأس مسؤول. أُهمِلت الترع وجفّت وإصاب العطش الحواشات، وسُرّحت الكفاءات، وتُرِك الفلاح وحيداً في مواجهة العطش والجوع والديون. كأن الجزيرة ليست قلب السودان النابض، بل هامشاً يُراد نسيانه.
ثم جاء اليوم الأسود، حين انسحب الجيش تاركاً الجزيرة لقمةً سائغةً في أفواه الوحوش. دُخِلت ديارها بليل، واُستُبِيحت أعراضها، وذُبِح أبناءها، وتحوّلت مدنها وقراها إلى ساحات مجازر. لم تُرفع راية حماية، ولم يوجّه إنذار، ولم نرى ليومنا نتائجاً للتحقيق فيما جرى.
وحين وضعت الحرب أوزارها، لم تأتِ الدولة ولا المنظمات لإعادة البناء. لم تُمَد يد، ولم تُفتح خزينة. حتى مشاريع العودة الطوعية، حملها أبناء الجزيرة على أكتافهم.
عاد أبناء الجزيرة. عادوا بصمت، بلا ضجيج ولا مَنّ، إلى أرضٍ أحبوها كما يحب العاشق معشوقه. رمموا بيوتهم، فلحوا أرضهم، وزرعوا من جديد لا لأجلهم وحدهم، بل لأجل السودان كله، هم الذين يقطعون من عظامهم لا من لحمهم فقط ليعيدوا الحياة إلى أرض الخراب.
اليوم، أمام رئيس الوزراء الجديد، البروفيسور كامل إدريس، اختبار أخلاقي وسياسي حقيقي: هل سينصف الجزيرة؟
إذا كان صادقاً في حديثه عن أولويات الإنتاج وإنقاذ السودان من مجاعته القادمة، فليس هناك سلة أقرب وأحق وأجدر من الجزيرة. إنها الأرض التي أعطت دون أن تسأل، وضحّت دون أن تشتكي.
فلتكن الجزيرة أولى خطوات الإصلاح، لا لكونها فقط أرضاً خصبة، بل لأنها كانت مربط فرس التماسك الاجتماعي، والأنموذج الذي جمع كل سحنات السودان وقبائله في نسيج واحد لا يُنسى.
ولابناء الجزيرة أقول: إن كان هناك من درسٍ تعلمناه، فهو أن الطيبة وحدها لا تكفي، والنيات الحسنة لا تصنع عدلاً. لا بد من وحدة، صوت قوي، وموقف لا يقبل التهميش بعد اليوم. الجزيرة لا تطلب فضلاً، بل تطلب الحق، بكل تجلياته.
ولما كان حديثي موجهاً إلى أبناء وبنات الجزيرة، فمن الواجب عليّ أن أذكّر عضو مجلس السيادة، السيدة سلمى عبد الجبار، بأن تنظر إلى ما قامت به رفيقتها بنت الشرق، دكتوره نواره ابو محمد طاهر منذ تولّيها المنصب، وكيف أولت إنسان الشرق وقضاياه اهتماماً صادقاً، حيث قامت بزيارات ميدانية ورعت فعاليات ومبادرات في بذل واضح لرد الجميل لأهلها.
لم تكتفِ بالجلوس في الاجتماعات داخل المكاتب المكيّفة، بل نزلت إلى الميدان، وكان في الذاكرة ذلك اللقاء الذي خاطبت فيه الشباب، بينهم شابٌ وضع نظارته على جبينه كصانع اللحام، في صورة خالدة لمعاناة الناس الحقيقية.
على السيدة سلمى أن تتحدث بقوة ووضوح عن الجزيرة وإنسانها، حتى ولو من باب أنها جزء لا يتجزأ من شعب السودان، وأن تجلس مع أهل الجزيرة لتتلمس قضاياهم، وتصغي إلى وجعهم.
على الأخت سلمى أن تخرج من المكاتب إلى مواقع الألم والمجازر، وهي معلومة للجميع، كي ترى بعينها ما حلّ بهذه الأرض الطيبة من خراب، وأن تسهم – ولو بقدر يسير – في تضميد جراحها وإعادة اعتبارها.
أنا سارة الطيب بنت الجزيرة، العاشقة لترابها، أقسم أن أقاتل بالحرف والكلمة والقلم، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، حتى لا يظلم طفل في الجزيرة مرة أخرى، وحتى لا يدنّس أرضها ماكر، ولا تنتقص حقوقها.
التحية لأهلي الذين عادوا بصمت، وفلحوا أرضهم رغم الجراح، والتحية لكل من آمن بأن الجزيرة تستحق أن تعامَل بما يليق بعطائها. سنعيدها سيرتها الأولى، وننتزع حقوقها المسلوبة، لا رجاءً، بل باسم العدالة والواجب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 + 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى