دكتور خالد صالح يكتب : سنجة والأيام العجاف

بحلول هذا اليوم ، تكون قد مرت علي سنجة ( 90) يوما من الأيام العجاف اليابسات ، منذ أن حطت المليشيا المتمردة رحالها في ذلك اليوم الحزين الأغبر، فطارت الطيور من أوكارها، وسكت القماري عن الهديل وجفت أشجار المنقة والجوافة والليمون حزنا وكمدا ، وذبل النيم الذي يزين الشوارع ، ولم يعد النيل الأزرق يعانق الحي الشرقي عند قدومه ، ولا يقالد حي (14) عند الوداع ، بهتت الحياة فلم تعد وريفة كما كانت ، ويبس الزرع وقل الضرع ، وأصاب الناس كرب عظيم ، فهجروا مدينتهم التي أحبوها مكرهين ، تشتتوا في فجاج أرض الله الواسعة يعانون وطأة التشريد والنزوح وثقل الظروف، وقلة ذات اليد والنصير ، يقاسون تباريح الهوي والوجد والشوق لسنجة من العشرة حتى المزاد ، ومن الشمالي حتى القلعة ، يشتاقون لسنجة جملة وقطاعي ، لشجرها ومدرها وهذرها ومطرها، سنجة العامرة بالحب والحياة، عقد (ولاية سنار) النضيد المنظوم ، وعروس النيل الأزرق المجرتقة والمزخرفة بالسندس الأخضر والأستبرق، الحبل المتين الذي تعتصم به البلود من الدالي الي المزموم ومن توزي الي بوزي ومن بوط الي جريوة ومن القويزات الي السدرات ، ومن المرفع الي النورانية ، ومن طيبة الي أم شوكة ، ومن خليل الي عنيكليبة ، ومن الرماش الي الشلال ، ومن الدبكرة الي ود الجزولي ، ومن الصابونابي الي أم بنين ، ومن ود العيس الي أم سنط ، ومن اللكندي الي كركوج ، ومن حلة سعيد الي ابو البنات ومن مينا الي أب قرع ، ومن السوكي الي الدندر ، كانت سنجة صرة الصعيد وزهرة المدائن، مدينة برائحة اللارنجا وعطر الليمون والياسمين وطعم الموز والمنقة، مدينة ساحرة وإستثنائية، مدينة الحكاوي والغناوي والإنسان المتحضر، ( إنسان سنجة) الخالد في تاريخ الأمم والشعوب ، الذي أهدي الناس السلام والوئام والألفة، ترى ماذا سيكون حال ( عبدالله ود الحسن) الثائر الوطني والمخلص، وهو يرى سنجة قد أجهز عليها ( حثالة البشر)، وما الذي سيكتبه ( حسن نجيلة )؟ ، لو قدر له أن يتأمل حال المجتمع السوداني مجددا، وكيف سيترافع ( أحمد خير المحامي)؟، إذا قدر له أن يترافع عن انسان سنجة، وما الذي سيخطه يراع ( زينب بليل) اذا أرادت التعبير عن حال مدينتها التي أحبت؟ ، وما هي ردة فعل ( عبدالله رجب) اذا أطل على عالمنا مجددا وأراد أن يحدثنا ( بصراحة).
(٩٠) يوما، من الشتات والتشظي والتشريد والموت والدمار والتخريب ، لم تشهدها سنجة طوال تاريخها السابق ولا اللاحق ، لم تشهد مثلها حتى في زمان التركية السابقة ، أو الحكم الإنجليزي البغيض ، ومن عجائب الزمان أن ( مستر بوند) الانجليزي القح باني نهضة مدينة سنجة الحديثة بعد أن قضت عليها ( نار بت الخزين) في أربعينيات القرن الماضي ، شيد سنجة الحديثة على نحو حضاري متفرد ، كانت شوارعها واسعة وآية في الجمال وكان سوقها الكبير على هيئة ( العلم الانجليزي) ، ومستشفاها روضة غناء ، وأنديتها عامرة بالألعاب وبالتنس الأرضي ومنتدياتها واحة وارفة للعلم والمعرفة ومدارسها تحف معمارية نادرة ، كان يحفها قصر بديع تلقاء النيل وحديقة ( جنينة سنجة ) عامرة بشتى أنواع الثمار والأزهار في الكون ، إما ياجوج هذا العصر وماجوجه ، كانت وطأتهم على سنجة ثقيلة ، حتى فقدت اسواق سنجة فومها وعدسها وبصلها، ناهيك عن مجوهراتها وخزائنها.
ولأن قدرة السنجاويين على الصمود والحياة أكبر من قدرتكم أيها ( الجنجوديين) ، على الغدر والخيانة والخسة والنزالة والسرقة والتقتيل، ستعود سنجة لحضن الوطن، ولسابق عهدها ( حلوة بناساا)، وستتعفن جثثكم تحت أسوراها، ستكون الجوارح والصقور على موعد قريب مع ( وجبة دسمة)، والي جهنم وبئس المصير، فأنتم لم تفلحوا في الدنيا أبدا وستخسرون الآخرة جراء ما فعلته اياديكم الباشطة ونفوسكم الآثمة ، ليس في سنجة وحدها ولكن في كل بقعة طاهرة رزئت بكم.
وصبرا آل ( سنجة).. فغدا نكون كما نود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى