فلنستعِر عنوان أحد كتب الأديب والمفكر والفيلسوف السياسي والصحفي المصري الكبير الأستاذ “عباس محمود العقاد”، وهو علم من الأعلام، ولا يحتاج منا إلى تعريف أو توصيف، فالرجل يعرفه السودانيون أكثر مما يعرفه غيرهم، فقد زار “العقاد” بلادنا عام 1943م وهو في أوج مجده الأدبي وفي ذروة تألقه الفكري، وكان في الرابعة والخمسين من عمره، وقدم محاضرة في (دار الثقافة) شهدها جمع كبير لم يحدث مثله قبل ذلك التاريخ، ولحن موسيقانا الكبير “إسماعيل عبد المعين”، صاحب أناشيد المؤتمر الثلاثة (صه يا كنار.. وللعلا.. وصرخة روت دمي)، لحن “عبد المعين” وغنى في تلك الليلة المشهودة قصيدة “العقاد” التي ذاع صيتها وانتشرت بلحن “عبد المعين” في كل السودان والتي يقول في مطلعها: “يا نديم الصبوات.. أقبل الليل فهات”.
رحم الله “العقاد”، فقد كان دنيا فريدة وعالماً متفرداً حتى أن الصحافة المصرية أسمته (الجبار)، وذكر مؤرخنا الأنيق الأستاذ “محجوب عمر باشري” – رحمه الله – في كتابه الموسوم ب(رواد الفكر السوداني) أن “العقاد” بكى وسال دمعه ظاهراً للعيان عندما ألقى أستاذنا الكبير الراحل “محمود الفضلي” قصيدة العقاد “أبعداً نرجى أم نرجى تلاقيا.. كلا البعد والقربى يهيج مابيا”.. وعندما رأى الحضور النوعي تلك الدموع ، صاح الشاعر الراحل “حيدر موسى”: “لقد بكى الجبار”..
نعود لعنواننا (هذه الشجرة)، فإن إسترسلنا وخُضنا سيرة “العقاد” سنجد أنها بحر بلا ساحل ولا إنتهاء .. فكتاب الأديب الكبير “عباس محمود العقاد” الذي حمل ذلك الاسم ، يعد من أعظم ما كتب “العقاد” بعد (العبقريات) طوال حياته التي امتدت من تاريخ ميلاده ب” أسوان ” بجنوب مصر في 28 يونيو 1889م وحتى تاريخ وفاته في 13 مارس 1964م ، وذلك لأن هذا الكتاب حمل رؤية العقاد للمرأة ، معتمداً على وسوسة الشيطان لحواء حتى تأكل من الشجرة المنهى عنها في الجنة ، فكان مصيرها ومصير أبينا “آدم” أن أهبطهما الله إلى الأرض لتبدأ رحلة الإنسانية الجديدة.. وثالثهما الشيطان الذي هو من الجن !! .
أما شجرتنا المعنية والمقصودة بالعنوان أعلاه شجرة سودانية صميمة ، تنمو في مناخنا الحار جاف ، وعلى نطاق السافنا الفقيرة، وهي شجرة “اللالوب” التي نربط بينها وبين كثير من الطقوس التعبدية والغيبية مثل صناعة “سبحة اللالوب” الألفية التي يستخدمها المشائخ و(الفقرا) ، ومثل ما نربط بين سُكنى الجن والشياطين لهذه الشجرة.. ولي تجربة شخصية ، جعلت من جاء به صديقي الراحل “محمد عبد المطلب خالد منصور” ، وعدد من أفراد أسرته في “فريق المدنيين” بمدينة ود مدني ، جعلت من جيء به لقص وتهذيب شجرة هجليج (لالوب) قديمة ذات صباح دافئ ، جعلته يهرب ويفر تاركاً كل معداته دون أن يرجع لها ، ودون أن يستجب لنداءاتنا له ، رغم مرور أكثر من عقدين على تلك الحادثة ، إذ سقط الرجل من أعلى الشجرة على رأس حمام صغير ، حتى هتك سقف ذلك الحمام ، وأصيب برضوض لم تمنعه من الركض !
وكان أن ظهرت شجرة جديدة ، هي “شجرة النو” ونقصد (مستشفى النو) في الحارة الثامنة بمدينة الثورة في محلية كرري ، والذي إنتشرت قصته قبل عدة سنوات ، بعد أن تم قطع شجرة “لالوب” قديمة ليبدأ إشتعال النيران في كثير من المواقع دون إنذار ، وتعطلت بعض الأجهزة ، وقال صديقنا الدكتور “معز حسن بخيت” وكان وقتذاك مديراً لمستشفى النو بمدينة الثورة ، قال إنه لا علاقة لتلك الحرائق بقطع الشجرة ، وذهبت لأتحقق بنفسي من الذي حدث ، فوجدت أن النيران لم تشتعل إلا بعد قطع تلك الشجرة ، بل إن الذي أدهشني وسيُدٍهِش الكثيرين إن النيران أتت على غرفة مسؤولة المختبر الخاصة في بيتها ، وهي التي أصرت على قطع الشجرة.
صديقي الدكتور ” معز حسن بخيت ” لا يبدو عليه الخوف ولا الرّعب ولا يريد تصديق العلاقة بين الشجرة والجن والنار .. وقلت له إنني سأخلصه من هذه المصيبة.. سعد وانطرحت أساريره وقال بصوت متهدج : ” كيف؟ ” فقلت له: ” هذا شأني.. وسوف ترى ” .
قطعاً أدخلت نفسي في ورطة كبيرة مع هذه الشجرة … (!) … لكنني أوفيت بوعدي .. فقد توقف إشتعال النيران .. لكنني بصراحة لم أفعل شيئاً يُذكر .. فقط توقف إشتعال النيران دون أن أفعل شيئاً .
Email : sagraljidyan@gmail.com