خالد النور يكتب : «حش التمر».. موسم للحصاد وتواصل اجتماعي فريد!!

مع إقتراب الموعد المضروب لحصاد البلح والذي يأتي في سبتمبر من كل عام، حزمت امتعتي و«عدة الشغل»!، واتجهت صوب الولاية الشمالية التي تتمتع بزراعة البلح بانواعه المختلفة (القنديل، البركاوي، التمود، والجاو والمشرق .. وغيره)، وكانت الوجهة الى منطقة تنقسي الجزيرة الوادعة التي ترقد هادئة بين النيل والصحراء في حياة ملئية بالهدوء والقسوة.

هناك وقفت على إستعدادات بعض المزارعين الذين اكملوا تحضيراتهم للحصاد بما فيها الجوالات الفارغة والمشمعات وأواني تجميع البلح، بجانب نظافة المكان من الحشائش وجريد النخيل الزائد الذي يعيق الحصاد في بعض الأحيان، بالاضافة الى تحضير (السواديب) جمع (سيداب) وهو المكان الذي يوضع فيه البلح بعد الحصاد.

«حش التمر».. هو عيد للحصاد يتنادى اليه الناس من كل حدب وصوب، منهم من يأتيه مسترزقا، او مشاركا في حصاده، ومنهم يأتي متواصلآ مع اهله في القرى الوادعة في شمال السودان، فالمزارع عندما يغرس النخلة يردد «للمحتاج وللسراق وللشحاد» وهذه تنم عن قيمة النخلة ومساهمتها في التكافل الاجتماعي.

و«حش التمر».. يصاحبه تواصل اجتماعي كبير وتراحم بين الناس زائرين ومقيميين ويكون عيدا لأهلنا في الشمال من نواحي اقتصادية منها واجتماعية.. وله طقوس تبدأ بتحديد موعد الحصاد الذي يحدده «اللقاح» بالاتفاق مع صاحب البلح، وتأتي أهمية “اللقاح” في تلك الفترة لان كل التمور يتزامن حصادها في توقيت واحد ويكون «اللقاح» في تسابق مع الزمن لحصاد تمور العديد من المزارعين ..

وبعد تحديد اليوم يتم تنبيه (اللقاطين) وهم الذين يقومون بعمليات الحصاد مع (اللقاح)، وهو ذلك الشخص الذي يقوم بتلقيح البلح في البداية ومتابعة التلقيح الذي يستمر الى فترات متقاربة الى حين مجئ فترة عمليات الحصاد في النهاية بعد يستوي وينضج البلح.

دائما ماتأتي العمالة الوافدة من خارج المنطقة في تلك الموسم واغلبهم من سكان الصحراء او مايسمون بـ(عرب الخلاء) وهم من البادية يأتون عبر الجمال بأسرهم للمساعدة في حصاد البلح فمنهم من يعجبه حياة (البحر) كما يسمون هم سكان النيل، ومنهم من يقفل راجعآ.. حيث يستقر البعض في اطراف المناطق وبعدها يحدث الإندماج في المجتمع المحلي والتعايش من خلال الاستقرار.

مع شروق الشمس يربط اللقاح (المنجل) وهو آلة الحصاد في وسطه برباط من جريد التمر الأخضر ويصعد الى التمرة والتي غلبآ مايكون طولها مابين (12 – 5) متر، يبدأ بقطع (سبيط) النخيل ويسقطها من يده لرتطم بالأرض وتتناثر حبات التمر بين الحشائش و(الكشيك) وهو مايدخل بين جريد النخلة، وحديثآ تم استجلاب (المشمعات) للمساعدة في تسهيل تجميع البلح، حيث يوضع المشمع بالأرض مقابل للنخلة ويتم اسقاط (السبيط) من اللقاح ليستقبله شباب اقوياء يستطيعون نقل كمية ليست بالقليلة الى مكان (التجميع).

ومكان (التجميع) الذي يسمى ب(الصينية) في الغالب توجد نسوة او رجال كبار السن لإحكام التجميع و(خرط السبيط) بالاضافة لعمليات التعبئة، ودائما ما يدير نقطة تجميع التمر اشخاص لديهم خبرة، ويكون صاحب المزرعة مشرف على كل عمليات الحصاد ويتنقل بين كل النقاط التي تم ذكرها.

يتم إحضار وجبة الفطور الى مكان الحصاد التي تعدها (ست البيت) بكميات كبيرة من القراريص بملاح (التقلية) او (الكداد) وغيره من الاكلات الشعبية بالمنطقة، ويسمى فطور (التحتانية) والمقصود منها مكان الزراعة والذي في الغالب يكون في اتجاه النيل، ويتجمع كل من في الجنائن المجاورة لتناول الوجبة في لوحة تنم عن الحفاوة والكرم الحاتي، مع شرب الماء من الجدول الذي تأتي مياهه من النيل.

موسم حصاد البلح تنعقد عليه آمال وأحلام كبيرة من أصحاب المحصول والبسطاء وكافة شرائح المجتمع..
ويقول الشاعر محمد الحسن سالم حميد:
بقيت أفكر في التميرات قدر ماخم الظبيط غلبا .. الجرورة الفوق ضهرنا تنزلا ..

تنشط بعد الحصاد الأسواق والأعراس، فجميع أهل البلد والوافدين وحتى الأطفال والحبوبات يستفيدون من موسم «حش التمر» ويدعون بالخير الوفير لصاحبه “انشاء الله ربنا يزيد ويبارك و«تحضرو دائم» وغيرها من الدعوات.

عندما تميل الشمس الى المغيب ينتهي يوم حافل بالجد والاجتهاد والرضاء بماقسمة الله من رزق لصاحب البلح والذي يمثل المحصول النقدي لمواطني الولاية الشمالية .. ويتم توزيع البلح على اللقاطين أو العمال بما يعرف بـ(الكرامة) وغالبآ ماتكون (كيلة) اي (ربعين) من البلح الجيد، وهنا يكون صاحب المزرعة مبسوط لحصاد منتوجه .. وياتي الاطفال مطالبين بنصيبهم ولا يرد احدا الجميع ويذهب مجبور الخاطر .. مع موعد جديد ويوم جديد للعمل من أجل الحصاد .

كل عام والجميع بخير .. وتامين ولامين

Exit mobile version