كما ذكرنا سابقاً فإن الإنجليز كما الأوربيين عموماً لديهم اعتقاداً بأن هناك عائلات خلقت لتحكم فجعلوا السياسة نفسها في السودان تتقاسمها عائلتان إحداهما كانت مناصرة للغازي الإنجليزي في بداية الأمر، وأخرى كانت مقاومة للاستعمار ولكنها للمفارقة صارت صديقة له بعد أن أعاد رسم دور لها وهي تردد عبارة السودان للسودانيين في مقابل دعوة العائلة الأخرى بالاتحاد مع مصر وهو أمر لا تزال تستمد منه مشروعها السياسي رغم أن السياسيين المنادين به والذين تحالفوا معها تخلوا عن فكرته الأصلية عشية الاستقلال بالتصويت لخياره من داخل البرلمان.
غير أن موضوع العائلات هذا لا ينتهي هنا ولكنه يشمل العائلات الفرعية العابرة للأحزاب والتي تمارس تمارس ذات الأدوار السياسية بالتناوب على المقاعد الحكومية، وإذا قارنا بين اي حكومة وتلك التي سبقتها وآخرها حكومتا ما قبل وبعد سقوط نظام الإنقاذ نجد ذلك التداول مستمراً.
ورغم أن السياسة لا تنفصل عن الدين كما هو الحال في أوربا نفسها والتي ترفع الصليب في جل أعلامها بما في ذلك علم حلف الناتو وتسمي أحزابها بالحزب الديمقراطي المسيحي أو المسيحي الاجتماعي وتحجر علينا عبر وكلاءها بالداخل تسمية أي حزب بالإسلامي، إلا إن مشكلة معظم مكون الطبقة المثقفة في السودان لم يخرج عن ذلك التدين التقليدي الذي يجُر لإتباع تلك العائلات، فمن المعتاد أن تجد شخصاً ذو تعليم جامعي وثقافة عالية يعتقد أن أهل القبور قد يضرونه أو ينفعونه، فيتقرب إليهم ذلفى في مخالفة واضحة للحديث الذي يقول بانقطاع عمل ابن آدم بعد وفاته إلا من ثلاث، مما يجعل ذلك الشخص الحي أنفع لذلك الذي قضى عليه الموت وليس العكس.
ولعل بؤس تديننا وتقديسنا للقشور جعل شخصاً مثل الأب سبنسر تريمنغهام الذي سبق ذكره يشير إلى وجود ممارسات إسلامية سودانية قد نصفها بأنها بدع سافرة، استخلص منها نتيجة مفادها إما أن السودانيين مسلمون غير ملتزمون أو إن إسلامهم يختلف عن إسلام الشعوب الأخرى، غير أنه وآخرون يرون في إيمان عميق بأن هذه المسألة متروك الحكم فيها لربهم الذي خلقهم .
وتريمنغهام نفسه هو بطل القصة الشهيرة التي ظللنا نردد بسببها قصيدة شاعرنا الكبير يوسف مصطفى التني ( ما بهاب الموت المكشر وما بخش مدرسة المبشر عندي معهد وطني العزيز) فقد وقع تريمنغهام يوماً تحت طائلة القانون من فرط شططه التبشيري بتنصير شابة مسلمة تعهدتها كنيسته بالرعاية منذ السابعة من عمرها مخالفاً القانون الذي يلزم المنصر بالرجوع إلى قاضي شرعي قبل التنصير، وما أن سمعت أمها بذلك حتى خرجت إلى سوق أم درمان تستنفر الناس ليردوا لها ابنتها إلى دينها فخرجوا في تظاهرة احتجاج طوقت الجمعية التبشيرية وقد أدان مكتب السكرتير الإداري تلك الواقعة وخطل موقف ترمنغهام.
غير أن الأمر الذي استمر على مدار تاريخنا المعاصر وحاضرنا الراهن هو الاستقواء بالأجنبي والتدخلات الأجنبية التي أضحت أمراً عادياً حيث يواصل الأوربيون التدخل السافر في السياسة السودانية من لدن البارونة كوكس راعية المعارضة السودانية أيام حكم الإنقاذ و إلى السفير البريطاني قبل الأخير ذو الأصل الباكستاني والمتقمص للدور تماماً مثل فريد زكريا، عرفان صديق الذي تحول إلى ناشط سياسي معارض أكثر من أنه سفيراً ففي إحدى تسجيلاته يسير عكس الشارع الذي غير من اسمه، وعكس الأعراف الدبلوماسية ليطالب الحكومة السودانية بحسن التعامل مع مواطنيها وكأنه يعتقد أنه في حديقة الهايد بارك الشهيرة في لندن يلقي الكلام على عواهنه ولا تلقي الشرطة القبض عليه، ورغم أن ذلك السفير يقول كلاماً غير مرغوب فيه إلا إن السلطات لم تعلنه شخصاً غير مرغوب فيه وفقاً للعرف الدبلوماسي وأسوة بحادث طرد السفير البريطاني في السودان ألن قولتي في السنين الأولى لحكومة الإنقاذ، في أول سابقة في تأريخ العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.أو حكاية صرف البركاوي للسفيرة روزاليندا قارسدن مساعدة فلولكر الحالية.
واغلب الظن أنه كانت هناك تدخلات غير مرئية من نظراءه الآخرين الذين أحالوا السودان نهباً لمؤامراتهم ودسائسهم بعد التغيير الذي تم في 11 ابريل 2019م ولو تصدى مراقب مختص لهذا الموضوع لخرج علينا بنفس كتاب ضابط المخابرات في عهد الرئيس نميري الراحل حسن صالح بيومي والذي كان عنوانه ( جهاز أمن الدولة أمام محكمة التاريخ – تجربة السودان في الأمن والمخابرات) والذي تحدث فيه عن مشاهداته في التلفزيون الرسمي للسودان بعد الانتفاضة لضباط مخابرات غربيين يعرفهم وهم يوزعون الإغاثات والمعدات على المواطنين بدعوى أنهم موظفو منظمات طوعية. اتضح من واقع تلك المقالات الخمسة أننا نفتقد سواء إلى (مذكرات) من شغلوا الوظائف الأمنية في عهد الحكومات الوطنية وكان بيدهم القرار أو كانوا واسطة لدى الأجهزة العليا ونفتقد كذلك الدراسات العلمية التي تتصدى للوقائع الأمنية، وحبذا لو قامت بذلك أكاديمية الدراسات الإستراتيجية والأمنية.
وقد تعود أهل السودان منذ زمن طويل على النظر في مجريات التاريخ كما لو كانت تحدث فجأة وتقع رغما عنهم أو أنهم لا يعيرون الحقائق وزنها حتى إن كانت ملقاة على قارعة الطريق كما يقول هتلر في كتابه كفاحي ، وربما يعتقدون إنها تأتي لتهددهم وتزعزع مكانتهم، دون أن يتوقعون منها أن تأتي لتعلي من مكانتهم أو تؤدي على اقل تقدير إلى نضجنا السياسي بدلاً عن البقاء في مواقع المتفرجين.
ويمكنني هنا أن أحيلك عزيزي القارئ لكتاب آخر للعميد الراحل حسن صالح بيومي والموسوم (ممارسة السياسة وغياب الوعي الأمني)، فهو كتاب ممتع ومخيف في آن واحد، ممتع لما يتضمنه من نظرات وأفكار ثاقبة عن أوضاع البلاد الأمنية خلال سنوات الاحتلال الانجليزي مع ربطها بالعقود الأخيرة، وهو مخيف لأنه يشعرك بالخوف على الحياة السياسية، بعد أن تحول القادة والزعماء ومن في حكمهم إلى قيادات مشغولة بالاستقواء أو الاستعلاء على بعضهم البعض، ونحن الشعب ضحايا صراع الأفيال في الخرطوم كما يقول الدكتور فاروق احمد آدم.