رباب حسن تكتب :عوافي أبوسن نجم يأبى الأفول

وفي آخر محادثاته معي كعادته تناقشنا في قضايا الوطن عن الأوضاع الراهنة ودلفنا للوضع الصحي بدولة تشاد وكان يتحدث بمأساة عن ضعف إمكانياتها الصحية رغم جهوده ووزير الصحة بدولة تشاد (عبدالله صابر) للارتقاء بالصحة ومساعدات مدير مستشفى رويال كير العالمية ( محمد حسين) ونقل إلي معانات الشعب التشادي في تلقي العلاج بسبب ضعف الإمكانيات الفحصية والعلاجية وكان مهموما كثيرا حتى مازحته هل انت من بني تشاد فأجابني أننا كلنا إخوة نشد بعضنا البعض واسترجعني بالذاكرة إلى أيام عمله الأولى في إثيوبيا ونيجيريا وكيف أنه سعي وعمل على التدريب وساعد في عملية توطين زراعة الكلى في كلا الدولتين كما وطنها بدولته الحبيبة السودان ..
وبعد رحيله المفاجئ أخبرني صديق لي يعمل ضمن الكادر الطبي لمستشفى رويال كير العالمية بدولة تشاد (حسن عبد المنعم سعيد ) أنه كان من المقرر أن يفتتح قسم جراحة المناظير وذلك لأول مرة بتشاد يوم الخميس ١٤ اكتوبر ليتم إجراء ثلاث عمليات بالمنظار الجراحي على أن يغادر بعدها في اليوم التالي إلا أن الموت سبقه على أمانيه .. ونأمل التقدم والارتقاء في المجال الطبي لدولة تشاد ..
جميعنا يعلم ما حدث له إبان العهد البائد وربما يكون قد حدث له ذلك بسبب الحسد المهني كما كان هو يسميه وفي هذا الصدد أود أن أؤكد أن له معي تسجيل كآخر مادة إعلامية .. ربما قدر لها الله أن تخرج بعد وفاته .. اوربما أنه كان يريد السير في اتجاهات قانونية كما كان يقول .. ولكنني على وعدي له .. بعد اذن من ذويه بنشرها .. فالمادة تحمل في طياتها الكثير والمثير .. جميعنا يعلم أنه لم يكن هدفه الحصول على المال بقدر هدفه معاونة ومعالجة المرضى خاصة الشرائح الفقيرة .. وقد كان ذلك ديدنه في كل الدول الأفريقية وليس السودان فحسب .. ومن الأشياء التي كانت تعجبني في شخصيته هي قوة ذاكرته وحفظه للأسماء واستصحاب مواقفها .. فقد رافقته كثيرا في رحلات استكشاف وعلاج المرضى في كثير من مدن السودان المختلفة في شكل عيادات مجانية برفقة بعض الاستشاريين في الامراض الأخرى مثل د.نزار النور علي ود.هاشم حسن عبد الوهاب ود. عمر حمور وغيرهم والتقينا خلال تلك الرحلات بالعديد من المرضى ومرافقيهم و من يقومون علي بالدعوة والتنسيق والضيافة .. ومنها رحلة الزريبة وقد كنا في استضافة مولانا الفاتح الشيخ البرعي وهو صديق موروث بالنسبة له لأنه ( رحمة الله عليه ) صديق الشيخ البرعي من قبل. … قضينا معهم يومين وأيضا زرنا الشكينيبة ورفاعة والحصاحيصا ومدني وسنار وكوستي وأرقى و دنقلا وبورتسودان وأبودليق وتمبول ومناطق عديدة لا يسعني المجال الآن لحصرها .. ففي كل تلك الزيارت كان يحفظ الأسماء بصورة رهيبة وعند عودتنا للخرطوم وتدويننا للرحلة تسقط مني الأسماء وعند سؤالي له عنها يجاوبني ضاحكا : ” بالسرعه دي نسيتي ” .. وكان يكتب معي بصفحة عافيتك التي كنت أحررها في صحيفة الانتباهة أسبوعيا وقد كان حريصا علي كتابة عموده واحة طبيب بصورة راتبة وقد استطعنا معا أن نحقق نجاحا باهرا في تقديم الإرشاد العلاجي .. فهو جزء أصيل في ذلك النجاح .. وربما أن كل من يدلف بحرص لقراءة عافيتك كان من أجل قراءة عموده وعن ماذا يتحدث هذه المرة .. غير أن باب الإرشادات الطبية الذي كان يجيب على استفسارت القراء وتسهيل العلاج لهم كان جزءا تتسابق إليه عيون القراء .. وأحب أن أقول أنني عند بداية نشأة صفحة عافيتك وضعت ماكيت الصفحة بمعاونة زميلتي راحيل إبراهيم و تضمنت عمود واحة طبيب كنت أبحث حينها عن طبيب يكتب فيها يمتاز بمهارة الكتابة السلسة المحبوبة الجميلة الجاذبة المهضومة لبساطتها .. ورغم معرفتي وخبراتي القليلة بالأطباء في ذلك الحين قادني تفكيري إليه فقد تعاونا كثيرا في استلام وطباعة ما نشر له بمجلة أيام وليالي لصاحبها الفاتح شبو حيث كان المصحح يعتمد علي في مراجعة كتابته .. وأيضا قرأت ما كتبه عن الطيب صالح في صحيفة الشرق الأوسط وقمت بإعادته في صحيفة الانتباهة .. وكان خيارا موفقا .. واستطعنا ان نشكل ثلة صحافية تخدم وتهتم بصحة الموطن أينما كان وكيف كان .. لم يعتذر قط وكان يكتب على أي لوح ورقي يجده حتى إن كان من الكرتون أو من منديل ورق .. وأذكر أنه كثيرا ما يسلمني عموده وهو مكتوب علي كيس يوضع للمسافر بالطائرة (Stock vomting ) ويعتذر لي ضاحكا ( ما لقيت ورق قلت أحسن استفيد من الكيس) .. ولا أنسي و الفقيد ( رحمة الله عليه ) وقفة زميلاتي بصحيفة الانتباهة معي عندما كان يرسل لي العمود عبر الإيميل الشخصي وهو مكتوب بخط يده ولك أن تتخيل عزيزي القارئ خط الأطباء إضافة لتصويره للورقة بالموبايل حيث كانت هي الطريقة الوحيدة المتاحة له لعامل السرعة و ازحمة .. كما أن الواتساب حينها لم يكن يحمل إمكانياته الحالية .. فكنا نتعب أيما تعب في قراءة ما قام بكتابته وبعثه لنا بالإيميل غير انه يعود ويقرأه لنا ومعي الأستاذة هالة نصرالله مرة أخرى .. ويقرا الورق المصور الذي كان يضعه على كرسي بحمام في شقته بلندن ويضحك ويقول (هنا أفضل مكان للتصوير نسبة للإضاءة العالية ) …
برغم القرار الجائر في العهد البائد الذي صدر بمنعه ممارسة المهنة إلا أنه كان يقابل كل من يستنجد به طالبا العلاج .. وقد قمت كثيرا بايصال المرضى إليه والتنسيق لذلك بمعاينتهم داخل البلاد .. البعض في مساكنهم .. وفي بعض الآخر في الشارع .. ومن ثم يرتب لمن يتطلب إجراء عملية جراحية لإجرائها خارج البلاد .. وأغلبها تم في إثيوبيا او نيجيريا .. فقد بذل كل جهده لعلاج المرضى .. بحثا عن منفذ آخر بعد منعه .. .. وكان يحاول مساندتهم .. فمن تقف أمامه مشكلة السكن كان يقوم هو بتسكينه في الدولة التي يجري فيها العملية .. لا يستطيع أحد أن ينكر أنه عمل على توطين جراحات وزراعة الكلى .. ويعتبر من مؤسسي زراعة الكلى بالسودان وفي إثيوبيا ونيجيريا وتشاد وجنوب السودان .. وعمل في السعودية والإمارات كطبيب زائر وقبل سفره الأخير لتشاد حيث وافته المنية كان في السعودية بطلب لإجراء بعض العمليات الجراحية .. وقد تم حيث قضي فيها أكثر من الأسبوع..
وبفقده( رحمة الله عليه ) فقد السودان أحد مؤسسي زراعة الأعضاء وتوطين زراعة الكلى واحد أبنائه الكرام البررة الذين سعوا لتطوير وتوطين زراعة الكلى ومن ثم نقل ذلك للدول المجاورة.
وعلي نطاق التبرعات والنفقات وتقديم العون أذكر أنني رافقته كثيرا في رحلاته وكان يدخل
يده في جيبه خفية ليعاون مريضا لشراء علاج أو فحص .. وفي آخر اسفاره للسعودية قابلته وفي المطار وهو يركض للحاق بالطائرة كنت أحمل أوراق مريض يطلب معاينة
وكنت اقف في انتظاره في موقف السيارات وكان بالقرب مني رجل مسن بسيط يبدو أنه من المألوفين بالمطار يمتاز بطول القامة وقد جلس بجانبي وعند وصوله لي مازح المسن كعادته فعرفنا أن سمعه ضعيف فأدخل يده في جيبة وأعطاه ورقة فئة 500 جنيه تحسسها المسن وابتسم وعني لي ذلك ان نظره مثل سمعه فانتبه عندها المسن لوجودي لانني كنت أتحدث مع الفقيد عن المريض الذي أحمل أوراقه فناداني المسن بعد أن تحركنا قليلا منه في اتجاه صالة المغادرة وسألني المسن عن إذا ماكنت قد تناولت وجبة فطوري فأجبته ليس بعد فمد لي ورقة ال 500 واحتفظ بالنقود التي كانت معه وجميعها من فئة العشرين وقال لي (بي دب افطري واشربي الشاي والقهوه ) ضحكت كثيرا وشكرته وقلت له احتفظ بها أنت وأسرعت خطاي للحاق بالفقيد وأخبرته بمافعل المسن فالتفت علي مندهشا وقال( لا يمكن يعني طلع أكرم مني ) …
حقا لم يأفل نجمك أخي الدكتور أبو سن – رحمة الله عليك – فقد خلدت سيرتك وهذه صنائعك وعلمك الذي تنتفع به البشرية جمعاء يضيء لنا مسارات كنا نجهلها كلها كلها تشهد لك بالبر والإحسان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى