تأملات- جمال عنقرة – التطبيع مع إسرائيل .. التجربة المصرية (1)

الخرطوم الحاكم نيوز
كنت أظن أن ما كتبته في شأن العلاقات السودانية المصرية، وكذلك في مسألة تطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية كافيا، لدرجة أني أشرت لبعض الذين طلبوا مني تعليقا أو تعقيبا علي بعض آرائهم إلى أني لن أكتب في هذين الموضوعين بعد ما كتبت ظنا مني أني قد كتبت كل ما يمكن أن يقال، إلا أن بعض ما وصلني من كتابات ورسائل وتعليقات في اليومين الماضيين اضطرني للخروج عن حالة السكوت، لا سيما وأن بعضه كان مستفزا، وبعضه يصدق عليه وصف صديقنا الدكتور أحمد الطيب إبراهيم استشاري جراحة الكلي والمسالك البولية المعروف أنه حديث عواطف أكثر منه حديث منطق وعقل، وبعضه سطحي جدا، لا ينظر إلى أبعد من سطح القشرة الخارجي، ومن ذلك مقال وصلني من أكثر من صديق منقول عن كاتب يستنكر بقوة ابتعاث مؤسسات دولية، وشركات عالمية ممثلين لها في السودان من المصريين، واعتبر هذا الكاتب أن ذلك يعتبر تعديا من المصريين علي حقوق السودانيين، فسألت كل من نقل لي هذا المقال (هل يعتبر وجود الكابتن محمد صلاح المصري في قلب هجوم فريق ليفربول الإنجليزي تعديا علي حقوق المواطنين الإنجليز؟) ثم ذكرت لهم بعد ذلك عددا من السودانيين الذين قدمتهم مصر الدولة والشعب والمجتمع، ومن الأمثلة التي ذكرتها أن نادي الزمالك المصري لديه ستة ملاعب، أطلق علي واحد من الملاعب الستة اسم اللاعب السوداني الكابتن عمر النور، وذكرت أن الحكومة المصرية عهدت إلى المهندس السوداني عزمي مصطفي أمر تطوير الصناعات الصغيرة، ومشروعات الأسر المنتجة، وعينته في وزارة التنمية الاجتماعية بدرجة وكيل وزارة، وأن السينما المصرية لا يغيب عن شاشاتها فيلم أو أكثر للمخرج السوداني سعيد حامد، وأن النادي الأهلي المصري قدم الكابتن عبد المنعم مصطفي (شطة) السوداني إلى الإتحاد الإفريقي لكرة القدم (كاف) وصار رئيسا للجنة الفنية للكاف لسنوات طوال، وأن المستودع الوحيد للكيماويات في ميناء السويس، المجمع العربي للزيوت والدهون والكيماويات (أفافكو) أهم مؤسسيه سودانيون، المرحوم عمر عثمان محمد صالح، وكمال إبراهيم أحمد، وجعفر محمد حسين، وأن الكابتن فاروق جعفر أشهر مدربي كرة القدم في مصر، لم يذهب إلى فريق إلا وأخذ معه الكابتن سمير محمد علي السوداني مدربا لحراس المرمي، ولعلم الجميع أن كل هؤلاء السودانيين الذين ذكرتهم من الذين أشرقت شمس تميزهم في مصر، وصاروا أعلاما بما قدمته لهم مصر من فرص استحقوها بجدارة، ليس من بينهم واحد حاز الجنسية المصرية، فجميعهم لا يزالون يحملون الجنسية السودانية، ويعيشون في مصر نجوما متوجة، وهم جميعا محل حب وتقدير واحترام كل الشعب المصرى، ولم يحدث أن أشار أحد من أهل مصر، ولو كان معتوها إلى أن واحدا من هؤلاء ضيق عليهم، أو نال شيئًا لا يستحقه، كما قال كاتب هذا المقال الذي أشرت له، غفر الله لنا وله.
وبالنسبة لموضوع تطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية، وعلاقته بالتجربة المصرية، أقول – ليس انحيازا لعاطفة – ولكن من واقع تجربة نحو نصف قرن من الزمان في عمق الحياة المصرية، ليست تجربة مصر في التطبيع مع إسرائيل وحدها، ولكن أكثر التجارب المصرية في كل المجالات لو أمعنا النظر فيها لوجدناها الأقرب والأنسب لنا في السودان، وفي مقدمة ذلك تجربة مصر في الزراعة، والتي وصلت إلى قناعة كاملة إلى أنها الطريق الوحيد للسودان لكي (يعبر وينتصر) ولذلك قررت لو كان في العمر بقية كما يقول صديقنا الأستاذ أحمد البلال الطيب فرج الله كربته، ورفع عنه الظلم الذي لحق به، ورد غربته، فلو كان في العمر بقية لعدت به زراعيا ومزارعا، كما نشأت ودرست وتخصصت، ولقد بدأت هذا المشروع، ونسأل الله التوفيق والسداد، فلعله يصير نموذجا يحتذي به.
وبالنسبة لحال مصر في التطبيع مع إسرائيل، فهو شبيه إلى حد كبير بحالنا، فمصر أكثر دولة عربية وإسلامية واجهت إسرائيل، بل قادت المواجهة لا سيما العسكرية، ودفعت في ذلك أثمانا لم تدفعها دولة غيرها، وإن لم تكن مواجهة السودان لإسرائيل لا تبلغ درجة مصر في المواجهة العسكرية، ولكنه معلوم للجميع مشاركات السودانيين الفاعلة في كل الحروب العربية الإسرائيلية، وهو الأكثر في المواجهة السياسية، فلا يكاد يتحدث أحد عن الموقف العربي والتصدي لإسرائيل إلا ويتحدث عن مؤتمر قمة الخرطوم عام 1967م، مؤتمر اللاءات الثلاث، وهو المؤتمر الذي أعاد للأمة العربية توازنها بعد نكسة حزيران 1967م، ولعل الناس يذكرون أن جواز السفر السوداني كان مكتوبا عليه (كل الدول عدا إسرائيل)، ومعلوم أن نظام الإنقاذ السابق كان قد رفع درجة التعبئة ضد إسرائيل، ولم يكن محتضنا للحركات الإسلامية والجهادية الفلسطينية وحدها، مثل حماس والجهاد، ولكن السودان كان في بعض فترات حكم الإنقاذ ملاذا لكثير من حركات المناهضة العسكرية والسياسية لإسرائيل، وكان معبرا لكثير من الأسلحة إلى المقاومة في فلسطين، الأمر الذي جعله هدفا لهجمات نوعية إسرائيلية، ولو يذكر الناس حديثا مهما للرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، ذكر فيه أن حربه لم تكن مع إسرائيل، ولكنها كانت حربا مع أمريكا، ولا تزال حتى لحظة حديثه المشار إليه حربا مع أمريكا، وقالها بلغة واضحة، أنه لم يعد قادرا علي حرب أمريكا وقد تخلي عنه الجميع، وأنه غير مستعد لتعريض بلده وشعبه إلى مزيد من التضحيات التي لا يقدرها أحد، ولذات الأسباب التي ذكرها الرئيس السادات تحدث كثيرون من قادة النظام السابق عن جدوي تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولأن حالة التوتر كانت عالية في السودان، ولأنه لم يكن من بينهم من يبلغ درجة ابن خالتنا (أم سترين) أو (ست البرين) الرئيس الراحل محمد أنور السادات، لم يقلها أحد من السياسيين الحاكمين بذات القوة التي قالها بها السادات، ولكنهم تركوها لغيرهم، وأرد الناس لحديث لصديقنا الشريف حسين خوجلي يتداوله الناس هذه الأيام في القروبات، قال فيه بذات ما قال به الرئيس السادات، ومن بين ما قال (نحن ما عايزين نبقي أحسن من غيرنا من العرب الراضية عنهم أمريكا، خلونا نبقي زيهم) وقال أكثر من ذلك، وقاله كله في عهد النظام السابق الذي يحكم باسم الحركة الإسلامية، وليس في عهد هذا الحكم القائم الموصوم بالعلمانية.
ونواصل بإذن الله تعالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى