حسين خوجلي في رثاء المهدي :“مضى أهل الميثاق”

“مضى أهل الميثاق.. وبقي أهل النفاق”
حين قتل حفيد الامام الحسين الشهيد ابراهيم بعث المنصور برأسه الى عميه ادريس ومحمد وكانا حبيسين بالسجن فلما وضع رأسه في حجر عمه محمد قال : أهلا وسهلا يا أبا القاسم تالله كنت من الناس الذين قال الله تعالى في حقهم: (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) ثم قبله بين عينيه وأنشأ يقول:
فتى كان يحميه من العار سيفه
ويكفيه سوآت الأمور اجتنابها
ثم قال للربيع: قل لصاحبك المنصور: قد مضى من بؤسنا أيام، ومن نعمتك أيام، والملتقى غداً بين يدي الله تعالى. فكان ذلك فألاً على المنصور ولم ير بعد ذلك اليوم راحة.
ومن حظ جبابرة العرب المعاصرين أن الاعلام العميل يحجب عنا نفثات مساجين الرأي الذين يقلقونهم بالأقوال البواتر والبرقيات الغائرات.
“ويظل الشافعي أبدا في المقدمة”
ومن التعزيات المصحوبه بالنصيحة ما أرسله الامام الشافعي الى عبد الرحمن بن المهدي حين سمع بجزعه في فقدان ولده فقال في رسالته: يا أخي عز نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، واعلم أن أمض المصائب فقد سرورٍ وحرمان أجرٍ، فكيف اذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ ألهمك الله عند المصائب صبراً، وأجزل لنا ولك بالصبر أجرا
“عليكم بحفظها ففيها عظةٌ وبركة”
ومن أبلغ الرسائل التي يجب أن يحفظها الناس عن ظهر قلب ويتعزون بها رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حينما غيب الموت ابنه. ففي رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم جوامع الحكمة وجوامع الكلم حيث قال: إلى معاذ بن جبل سلام عليكم فإني احمد الله الملك، الذي لا اله الا هو، أما بعد: فعظّم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا واياك الشكر، ثم اعلم أن أنفسنا وأموالنا وأهلنا وأولادنا من مواهب الله تعالى الهنيّة، وعواريه المستودعة، يمتعنا بها إلى أجل معدود ويقبضها لوقت معلوم. ثم فرض الله تعالى علينا الشكر إذا أعطى والصبر إذا ابتلى، وكان إبنك من مواهب الله الهنية وعواريه المستودعة، فمتعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه بأجر كبير إن صبرت واحتسبت، واعلم أن الجزع لا يرد ميتاً ولا يطرد حرناً)
“أما نصيحة بطران.. دمعة الشوق كُبي”
في كثير من الاحيان تكون الدموع السواجن أنسب روشتة لصاحب اللوعة الموجوع في فقيد. ومما روي في هذا الباب أن سليمان بن عبد الملك مات ابنه فاستفتى في حزنه عمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة حيث قال: (إن في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة)
فقال عمر: اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك بالصبر، فنظر إلى رجاء كالمستريح بمشورته. فقال رجاء أفِضها يا أمير المؤمنين فما بذلك من بأس لقد دمعت عينا رسول الله على إبنه إبراهيم. وقال: ( إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا لفراقك يا ابراهيم لمحزونون) . فأرسل سليمان عينيه حتى قضى أربه ثم أقبل عليهم وقال: (لولا أن نزفت هذه العبرة لانصدع كبدي) ثم إنه لم يبك بعدها.
وعلى هامش الحكاية والأسماء فمن الحبيب منها على قلبي اسم رجاء للرجال وتمثلاً برجاء بن حيوة سموا رجاء النقاش الناقد المصري الشهير عليه الرحمة ومن افضاله على السودانيين أنه اول من قدم الطيب صالح للقارئ العربي.
“صاحبة الحزن الأنيق”
ومما كان يحفظونه لأم الفضل رقتها وذوقها في الخطاب حتى وهي مغمورة بالغمِ والحزن وفقدان الأحبة والولد فقد دخل عليها المأمون لما قتل الفضل يعزيها فقال لها: (أماه، لا تحزني على الفضل فأنا خلف منه) فقالت: (كيف لا أحزن على ولد عوضني عنه خليفة مثلك). فأعجب المأمون من جوابها وكان يقول: (ما سمعت قط أحسن منه، ولا أجلب للقلوب).
“إيه يا خُناس”
وظلت الخنساء أبدا تُثيرُ في شعرها اعجاب الشعراء، وحيرة النقاد. ويثير فقدها لأخيها فخر لواجع الحزانى مثل ما يثير صبرها على ابناءها الاربعة الشهداء بعد الاسلام اعجاب المتوكلين.
وحين سئل الاصمعي في نعيها صخرا حين مات ونعته فقالت:
يذكرني طلوع الشمس صخرا
وأندبه لكل غروب شمس
ألا يا نفس لا تنسيه حتى
أفارق عيشتي وأزور رمسي
ولولا كثرة الباكين حولي
على أمواتهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أسليّ النفس عنه بالتأسي
فقالوا له: لماذا أنها خصت الشمس دون القمر والكواكب؟ فقال: لكونه كان يركب عند طلوع الشمس يشن الغارات وعند غروبها يجلس مع الضيفان. فذكرته بهذا لأنه كان يغير على أعدائه ويتقيد بضيفه.
“ما بين البلاغة والمبالغة”
ومن غرائب التعازي والرثاء أن ملك كنده حين ماتت إبنته وضع بين يديه بدرة من المال وقال: من بالغ في تعزيته فهي له. فدخل عليه إعرابي من دهماء الناس وقال: عظم الله أجر الملك، كفيت المؤنة، وسترت العورة، ونعم الصهر القبر. فقال: قد أبلغت وأوجزت، ثم دفعها له
“وشفاعة جدي”
ومن ارجأ الأقوال التي سمعتها في بشارات المغفرة للمسرفين على أنفسهم من المسلمين قول علي بن الحسين رضي الله عنه اذ كان في رفقته جليس مات إبنه وكان جزعا عليه فقد كان مسرفا على نفسه وصاحب خطايا.
فقال له سيدنا علي بن الحسين حفيد المصطفى مواسيا: لا تجزع فإن من ورائه ثلاث خلال أولهن شهادة أن لا اله الا الله، وأن محمداً رسول الله. والثانية شفاعة جدي صلى الله عليه وسلم، والثالثة رحمة الله التي وسعت كل شي، فأين يخرج إابنك عن واحدة من هذه الخلال؟
وكان لنا صديقٌ مسرفا على نفسه وصاحب نزوات وشهوات، ولكنه كان مطلعا وقارئا ممتازا أفادنا يوما بأن مقولة علي بن الحسين برغم ما فيها من رجاء وبشارة هي وحدها التي قادته للاقلاع والتوبة.
“الوصفة المباركة”
ومن الوصفات المجربة لإزالة الهم والغم والحزن عند المصيبة ما روته أم المؤمنين أم سلمة عن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: من أصيب بمصيبة فقال كما أمر الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيراً منها، إلا فعل الله به ذلك)
“لطفك بي الامام يوم الدفن والخاتمة”
كان الامام الصادق المهدي خفيفا على عواده فلم يضني اهل بيته ولا انصاره ولا محبيه بالممارضة وطول الانتظار، ولم يُرهق خاصته بالملازمة والخدمةِ والمرافقة المتطاولة بل مضى مثل أباءه الذين فارقوا ( أم بنايا قش) بالشهادة والمصادمة بالحياة وصروفها وغادروا الدنيا في أشراف الأمور وعوالي الأحداث كما يقول أهلنا مضى الرجل من القوة إلى الهوة ومن الركاب إلى التراب.
مضى الامام وترك في قلب كل رجلٍ سوداني وقلب كل امرأة سودانية شيئاً من الحكمة وحسن الفعال وحب الآخرين. وله في خدمة الشعب عرق.
مضى الامام وقد أشاع في العارفين أدب الصبرِ والرثاءِ والرجاءِ وحسن الخاتمة وذم الدنيا. ومما تذكرته في عزاء الامام رائعة عكير التي يحفظها كل الذين استعدوا للمغادرة وأحسنوا طريق العبور ومنها:
خيرك ما بيدوم يا البهرج الغشاشة
يا مطر المنية الديمة سابقة رُشاشه
كم قصراً جميل أنواره تضوي بشاشه
دمرتيهُ أصبح فاقد المقشاشه
***
أوصيك نفسي أوصيك الحيا وما فيها
شق ود الاحد بيت الشبر صافيها
لي متين تقنعي ونار الضلال تطفيها
تمسكي سكه الشافوها حاجه تَفيه
***
يا سامع دبيب النمله جوف العاتمة
يا كاشف الخفايا الفي الضمائر كاتمه
بي جاه سيد الرسل الكرام أبو فاطمة
لطفك بي الامام يوم الدفن والخاتمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى