تأملات جمال عنقرة الإمام الصادق المهدي .. زعيم التسامح والتصالح

الخرطوم الحاكم نيوز
لم يستوعب كثيرون – وانا منهم – قول السيد الصادق المهدي امام الأنصار ورئيس حزب الأمة القومي أنه حالة خاصة فريدة ونادرة لا شبيه لها، لا في السودان، ولا خارج السودان، واعتبرناها أول الأمر حالة تعال، وغرور، لكنني عندما أعدت النظر والتمعن، وجدت فعلا أن السيد الصادق المهدي ليس له مثيل فعلا بين من عرفنا، وسمعنا عنهم من بني البشر، في السودان وفي خارج السودان، ولو أني أردت أن أعدد ما وجدته من صفات نادرة عند الحبيب الإمام لما وسع ذلك مكان ولا زمان، لكنني أكتفي في هذا المقال بصفتي التسامح والتصالح عند الإمام الصادق، وأكثر ما أقوله من واقع تجارب ومعايشة، وصلتي بالحبيب الإمام جوانبها كثيرة، وهي تمتد إلى أكثر من أربعة عقود من الزمان، وأكثر ما أقوله شهوده أحياء يرزقون، ومنه ما هو معلوم للناس جميعا.
ولتكن بدايتنا المصالحة الوطنية التي وقعها الإمام الصادق مع الرئيس الراحل المشير جعفر محمد نميري في العام 1977م، وكما هو معلوم فإن العام 1976م شهد أعنف مواجهة بين حكومة ومعارضة في السودان تمثلت في الانتفاضة الشعبية المسلحة التي قادتها الجبهة الوطنية ضد نظام مايو، وكانت الجبهة تضم أحزاب الأمة والاتحادي وجبهة الميثاق الإسلامي التنظيم السياسي للأخوان المسلمين في ذاك الزمان، وكان السيد الصادق يتولي رئاسة الجبهة الوطنية، وكان الأنصار يشكلون القوة الضاربة في الجبهة، وقدموا من الشهداء ما لم يقدمه غيرهم، وكانوا علي استعداد لتقديم المزيد، وهم أصحاب رصيد وافر في ذلك، ليس القديم وحده (كرري والشكابة) ولكنهم كانوا الأجسر في مواجهة مايو (أبا القديم وجديد بقت معروفة) علي قول الراحل المقيم الشريف زين العابدين الهندي، وقبل الجزيرة أبا التي استشهد فيها امام الأنصار الإمام الشهيد السيد الهادي المهدي، ويوم الجمعة الثاني من شهر يوليو عام 1976م، كانت المعركة الأشرس، والتي قدم فيها الأنصار أرتالا من الشهداء، ومعهم مجموعة من شركائهم في الجبهة من الإسلاميين الذين تحسر نميري عندما وجدهم في دار الهاتف، وقد لاقوا ربهم دفاعا عن الدين والوطن، وفي هذه اللحظة تحرك الرجل الوطني الغيور الراحل المقيم رجل الأعمال والإداري الفذ فتح الرحمن البشير، وقام برحلات ماكوكية بين الخرطوم ولندن يدعو فيها الرجلين الرئيس جعفر نميري، والإمام الصادق المهدي للتصالح، وإغلاق ملف الحرب، وهنا لابد أن نقول أنه لا يستطيع أي سوداني مهما بلغ من الجراة، وغيرها مما لا نسميه باسمه، لا يستطيع إدعاء أي دور في المصالحة الوطنية ناهيك عن الزعم بأنه صاحب الدور الأكبر فيها، أو أنه صاحب فكرتها، فلما نقل السيد فتح الرحمن البشير للسيد الصادق المهدي ترحيب الرئيس نميري بفكرة المصالحة مع الجبهة الوطنية، لم يتردد السيد المهدي، وتحرك مباشرة لمقابلة المشير نميري في بورتسودان رغم أنه كان محكوما عليه بالإعدام، ورغم علمه أن ذوي الشهداء شركاءهم في الجهاد لن يستوعبوا ذلك، لكنه أقدم علي الخطوة بجرأة وشجاعة من أجل حقن دماء السودانيين، وأقبل علي مصافحة مايو وأياديها لم تجف بعد من دماء الشهداء العميد محمد نور سعد، وصحبه، وقبلهم الشهداء المقدم حسن حسين، والاحيمر وبرشم، والدكتور محمد صالح عمر، وامام الشهداء عمه الإمام الهادي عبد الرحمن محمد أحمد المهدي لهم الرحمة والمغفرة.
وعندما أطاحت الإنقاذ بحكومته، اختفي فقط حتى يتأكد أن النظام الجديد لا تقف وراءه قوة خارجية، فلما تأكد من ذلك كتب مذكرة ضافية للحكام الجدد يدعوهم فيها للحوار من أجل بناء نظام ديمقراطي سليم، وخرج لمقابلتهم، وتسليمهم المذكرة، إلا أنهم لم يكونوا في ذاك الزمان يستوعبون أية لغة للحوار، فألقوا القبض عليه، وبشعوا به، ورموه في غياهب السجون، ومزقوا مذكرة الحوار التي كان يحملها.
ولما أخرجوه من المعتقل وأم الناس في صلاة عيد أضحي، وتنادي الأنصار، وجاءوا من كل حدب وصوب، وهم مهيأون للقتال، واحتشدوا في مسجد الخليفة كما احتشد أسلافهم في كرري، لم يدعهم الإمام إلى نزال الحكومة، ومواجهتها، وإنما دعا الحاكمين إلى كلمة سواء من أجل حقن الدماء، وحتى لا يضيع الوطن بين قهر السلطة وعنف المقاومة، علي حد قوله.
أذكر في بداية الألفية الثالثة انتظمنا مجموعة مقدرة في ما عرف باسم ملتقي السلام، بمبادرة من الأخ الدكتور عصام صديق، وكان ذلك قبل اتفاق نيفاشا، وشاركت كل القوي والأحزاب السياسية في هذا الملتقي بصف قيادتها الأول، كان يمثل حزب الأمة القومي الأمين العام المرحوم الدكتور عبد النبي علي أحمد، والدكتورة مريم الصادق المهدي، والحزب الاتحادي الديمقراطي الأستاذ تاج السر محمد صالح، وحزب الجبهة الإسلامية القومية المرحوم الدكتور محمد الأمين خليفة، والحزب الشيوعي المرحوم الدكتور فاروق كدودة، وحزب البعث الأستاذ كمال بولاد، وحزب العدالة الأستاذ أمين بناني نيو، والشهيد مكي علي بلايل، والحزب الناصري الأستاذ مصطفي محمود، وعدد كبير من القيادات الفكرية والإعلامية والسياسية، مثل الدكتور كامل إدريس، والأساتذة محجوب عروة، وعادل سيد أحمد، والمرحوم قدورة، وكان يدعم الملتقي الأمين السياسي لحزب المؤتمر الوطني في ذاك الزمان السفير الشفيع أحمد محمد، وأجمعت هذه القوي علي ورقة شاملة للحوار الوطني والسلام، قامت بإعدادها لجنة ضمت الشهيد مكي علي بلايل، والدكتورة مريم الصادق، والأستاذ مصطفي محمود، وشخصي، وأجازتها الجمعية العمومية للملتقى في لقاء حاشد وجامع في دار الأمة، وكان السيد الصادق وقتها في القاهرة، ولما عاد طلب منا تأجيل تفعيل مشروع التوافق إلى حين إقناع مولانا السيد محمد عثمان الميرغني بالمشروع، وكانت فرصة للسيد المهدي لتجاوز مولانا الميرغني، وتجاوز التجمع المعارض كله، وكانت جميع الأحزاب في الداخل قد تهيأت لتقديمه زعيما وطنيا قوميا، لكنه ضحي بكل ذلك من أجل استيعاب السيد الميرغني في منظومة السلام التي توافق عليها الجميع.
ولما طرح الرئيس السابق المشير عمر البشير مشروع الحوار الوطني في الأول من يناير عام 2014م كان السيد الصادق المهدي أول المستجيبين، ولبي دعوة الحكومة للمشاركة في احتفال ذكري الإستقلال المجيد في القصر الجمهوري، وهو الإحتفال الذي كرمه فيه الرئيس السابق عمر البشير، وأقبل علي الحوار بروح طيبة، ونية صادقة إلى أن اختلفت الخطوات والخطي والنوايا، فخرج إلى مصر واتخذ فيها مقاما مؤقتا، ورغم أنه اعتزل الحوار الذي كان يجري في الخرطوم، لكنه لم يغلق أبوابه، وأذكر أني كنت قد تقدمت للمشير البشير بمبادرة لعودة السيد الصادق المهدي للسودان للمشاركة في حوار خارج دائرة الحوار الذي يتحفظ عليه الإمام وكان وزير رئاسة الجمهورية الدكتور فضل عبد الله فضل قد تبني الفكرة، فلما وافق البشير علي الفكرة، وكلف الدكتور فضل بمتابعة تنفيذها ذهبت إلى السيد الصادق في القاهرة، وعرضت عليه الفكرة فرحب بها ترحيبا حارا، واتفقنا أن تأتي لدعوته للعودة إلى الحوار مجموعة قومية من أهل السودان، تشاورنا وتفاكرنا في تحديد أسمائهم مع السيد الإمام بمشاركة سكرتيره الخاص الحبيب محمد زكي، وأذكر من الذين توافقنا عليهم لهذه المجموعة السيد عبد الرسول النور، والبروفيسور يوسف فضل، ومولانا دفع الله الحاج يوسف، والشيخ عبد الوهاب الكباشي، والدكتور كمال شداد، والدكتورة فدوي عبد الرحمن علي طه، والدكتور راشد دياب، والدكتورة امنة الصادق بدري، والأستاذ علي مهدي نوري، وغيرهم، وحددنا تاريخ العودة إلا أن بعض قيادات حزبه كانت لديهم بعض التحفظات، ومعلوم أن السيد الإمام لا يتجاوز قرارات الشوري مهما كانت قناعته الشخصية.
وهناك موقف مهم للسيد الإمام قبل ذلك، وتحديدا في ما بين عامي 2008 و2009م، كنت شاهدا عليه وكانت العلاقة في ذاك الوقت متوترة جدا بين الحكومة والمعارضة وكنت أقيم وقتها في القاهرة، فاقترحت علي السيد الصادق حوارا مع الصفوة من السودانيين والمصريين حول الحوار والسلام، فلما وافق علي الفكرة نظمت اللقاء مع صديقي الأستاذ هانئ رسلان المهموم والمهتم بشؤون السودان وقضاياه، في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية وقدم السيد الصادق في تلك الندوة أفكار متقدمة جدا، شجعتني علي أن أطلب منه طرح مبادرة للحوار والتوافق، فوافق عليها، وكان في طريقه للسفر إلى أوربا فكتبت خبرا عن المبادرة التي أسميناها (التراضي الوطني) وأرسلت له الخبر عبر الحبيب محمد زاكي، فوافق عليه، فأرسلته للأخ الأستاذ أحمد البلال الطيب، فنشره الخبر الرئيس في صحيفة أخبار اليوم، فعرضت علي الإمام التحدث في ندوة في سفارة السودان في القاهرة عن التراضي الوطني، فوافق بلا تردد، فذهبت إلي السفير إدريس يوسف نائب رئيس البعثة الدبلوماسية السودانية في مصر في ذاك الوقت، وعرضنا معه الفكرة علي السفير عبد المنعم مبروك، فرحب بها، ولكنه اشترط موافقة الخرطوم، إلا أن السفير إدريس شجعه، فقامت الندوة وكانت أعظم حدث في حينها، وكان من الممكن أن يكون لها ما بعدها لو أن الذين بيدهم الأمر في الحكومة استثمروا مبادرة السيد المهدي لصالح التراضي الوطني بين السودانيين جميعا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى