تأملات _جمال عنقرة – مناوي .. رؤية السودان الجديد

رغم أن صلتي بالسيد منى أركو مناوي رئيس حركة جيش تحرير السودان ليست عميقة، إلا أن معرفتي بأسرته، وصلتي بهم تعود إلى ما يقارب الأربعين عاما، وتحديدا في العام 1982م، وأول من عرفت من أسرتهم شقيقه الأكبر حسين الذي كان يدرس وقتها في جامعة جوبا، وكان ضمن أول طلاب إسلاميين يفوزون بانتخابات إتحاد طلاب جامعة جوبا، وتولي في هذا الاتحاد منصب السكرتير الثقافي، وكنت وقتها مسؤولا عن مناشط الطلاب الإسلاميين في الجامعات والمعاهد العليا، وفي التعليم العام في كل السودان، في أمانة الطلاب بالحركة الإسلامية، وكنت قد قدمت منهجا لعمل المناشط في ذاك العام يختلف عن المنهج المألوف، وكان يعتمد علي فتح المناشط علي كل الطلاب، وفي كل القضايا، ولا تقتصر علي الطلاب الإسلاميين وحدهم، ولا علي قضايا الحركة التقليدية، وكان هذا هو منهجنا في مصر علي أيام الدراسة الجامعية، فوجدت في فوز الطلاب الإسلاميين في اتحاد طلاب جامعة جوبا فرصة لعمل نشاط فكري وسياسي مختلف في جنوب السودان، فقدمت للاتحاد فكرة إقامة اسبوع ثقافي بمناسبة أعياد الوحدة الوطنية التي كانت تقام في شهر مارس من كل عام احتفالا بذكري اتفاقية أديس أبابا للسلام التي وقعت بين الحكومة وحركة انانيا2 في مارس عام 1972م، وتفرغ لتنفيذ الأسبوع رئيس الاتحاد الأخ عبد القادر، والسكرتير الثقافي الأخ حسين أركو مناوي، وظلا مرابطين معي في الخرطوم يتابعان إجراءات التنفيذ وكان العبء الأكبر يقع علي عاتق السكرتير الثقافي الأخ حسين، وأذكر أن الدكتور الترابي الذي كان سعيدا جدا بالفكرة، وشارك في الأسبوع في جوبا في أول زيارة له إلى جنوب السودان في حياته، فأذكر أنه سألني عن الطالب المباشر معي تنفيذ الأسبوع، فلما قلت له من دارفور، اطمأن قلبه، وقال (أولاد دارفور شطار، وبعرفوا الشغل، ويعتمد عليهم) ولقد كتبت هذه الشهادة في حياة الدكتور الترابي له الرحمة والمغفرة، ومن الذين شاركوا في أسبوع الوحدة الوطنية في جامعة جوبا، اللواء جوزيف لاقو، والسيد جيمس طمبرة، والدكتور علي الحاج محمد، والسيد محمد داود الخليفة، والبروفيسور محمد عمر بشير، ومن الطرائف التي لا أنساها أن المطبعة التي نفذت مطبوعات الأسبوع كتبت اسم السكرتير الثقافي في بطاقات الدعوة (حسين أركو ضاري) ولم يكن الزمن يسعفنا للتصحيح، فقال لي حسين، (مناوي ضاري كله ماشي، لا ده معروف ليهم ولا ده معروف، المهم السكرتير الثقافي) وحسين رجل سمح وبسيط، وطيب، فضحكنا، ومررناها هكذا، وصرت من وقتها أناديه (حسين أركو ضاري)، ولم نكن نتوقع أن يأتي زعيم له كسبه يرفع اسم (مناوي). ومن بعد حسين تعرفت علي شقيقه الأصغر خميس الذي درس اللغة الفرنسية في جامعة أم درمان الإسلامية، وتعرفت أيضا علي شقيقتهم عائشة التي توفيت في حادث سيارة لها الرحمة والمغفرة، وكانت تعمل في مجال التدريس، وناشطة اجتماعية، أما السيد منى فلقد رأيته أول مرة عندما جاء إلى الخرطوم بعد اتفاقية أبوجا للسلام مع الحكومة السابقة كبيرا لمساعدي رئيس الجمهورية، والتقيته خلال تلك الفترة نحو ثلاثة لقاءات مباشرة، وتحدثت معه بالهاتف مرة واحدة في العام 2014م من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وكانوا قد أتوا لمبادرة الرئيس التشادي إدريس دبي للسلام التي تهيأت لها فرصة كبيرة لتحقيق السلام، لولا المتاريس، والعوائق، وتحدثت في تلك الزيارة مع كل قادة الحركات المسلحة تقريبا، وجلست مع كثيرين من قادة الحركة الشعبية، وكانت أكثر جلساتي مع الأخ ياسر عرمان، والأخ مبارك أردول الذي لم يكن يفارق ياسر أبدا، ومجموعة كبيرة من أبناء ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق.
وقرأت يوم أمس تلخيصا لما قاله السيد مناوي في اللقاء الإعلامي لقيادات من الجبهة الثورية في قاعة الصداقة، وواصل السيد مناوي في هذا اللقاء الكشف عن شخصية الزعيم ورجل الدولة، التي تبدو واضحة في ملامحه، وأحاديثه، وهي للأمانة سمات ظهرت عند كثيرين من قيادات الحركات، الدكتور جبريل إبراهيم، والمك مالك عقار، والدكتور الطاهر إدريس، وظهرت بجلاء عند السيد مناوي، وهو يتحدث عن ملامح سودان جديد، ولا أقول سودان ما بعد الثورة، وإنما سودان ما بعد السلام، وهذا ما أشار إليه السيد مناوي وهو يتحدث عن (تصفير العداد) وقال بصراحة إنه يعني بتصفير العداد، تغيير الحاضنة السياسية، وتعديل الوثيقة الدستورية، وهذا هو المدخل السليم لتصحيح مسار الثورة، أو تصفير العداد كما أسماه رئيس حركة جيش التحرير السيد منى أركو مناوي.
قوي إعلان الحرية والتغيير، بشكلها القديم لم تعد تمثل الوطن ولا الثورة، ولا الواقع الجديد بعد السلام، وبعد الخلافات والصراعات التي أودت بحياتها، ومن عجب أن الذين جمدوا نشاطهم مثل حزب الأمة، والذين خرجوا من قوي الإعلان مثل بعض البعثيين، لا يزالون يشاركون في اجتماعات توزيع المناصب الجارية الآن، وكنت قد وصفت مواقف هؤلاء بموقف أم العروس الغاضبة، وهي كما قال المثل السوداني في وصف زعل أم العروس (أبت اللحم، وأخدت الفلوس) وهكذا القوة الرافضة والمتحفظة، ترفض المشاركة إعلاميا وتقاتل من أجل المشاركة في السلطة، فهذه الحاضنة يجب أن يتم التعامل معها حسب الواقع، يبقي الموافقون علي المبادئ، ويكونون مع شركائهم الجدد، ومع كل القوي الموضوعية والفاعلة في السودان حاضنة سياسية جديدة، تستوعب أهل السودان جميعا، وتحقق طموحاتهم، وتطلعاتهم، وكما قال السيد مناوي فإن هذه الخطوة لن تكتمل، ولن تكون لها قيمة ما لم يتم تعديل الوثيقة الدستورية لتستوعب كل ذلك. وأمر مهم آخر أشار إليه السيد مناوي، وهو تحقيق مصالحة شاملة، وإشراك كل أهل السودان، بمن فيهم الإسلاميين الذين لم يشاركوا في فساد أو ظلم، والمشاركة التي أفهمها مشاركة في تحمل المسؤولية، وليست مشاركة في توزيع المناصب والمغانم، وهذا أمر لا بد من تثبيته وتأكيده، وأعود إليه بإذن الله تعالي في مقال أكثر توضيحا، وأوضح تفصيلا، وأتفق معه أيضا في ضرورة تشكيل المجلس التشريعي، والذي يجب أن يستوعب متغيرات المرحلة وتحدياتها، وهذا أمر نعود إليه أيضا بإذن الله تعالي في مقال التوضيح والتفصيل الذي يضع النقاط فوق حروف السيد مناوي التي رسم بها ملامح خارطة المرحلة الإنتقالية المطلوبة لبناء سودان جديد، ليس فيه عزل ولا استعلاء، سودان يقوم علي الإنتاج، والإنتاج الزراعي في المقام الأول، ولا يظل هكذا يمد أيديه إلى الذين يقدرون، والذين لا يقدرون، أعطوه، أو منعوه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى