دكتورة جنان الدليمي تكتب : صرخة أطفال رصاصة من نار تدق في اذني

الحاكم نيوز

“تفتك بنا العواطفُ…. تسحقنا الذكريات… تقتلنا الأماني… تصرعنا المحبةُ فتقضي علينا الهُمومُ… فلا وطن لنا في وطن الوطن ولا شيء باق لنا خيمة داخل الاغتراب سوى بقايا شوقٍ عتيقٍ كنَّا قد ركناهُ في زاوية ذلك الرمز الذي أسموه لنا الوطن والذي أضحى شاهدا على إبادة طفولتنا البريئة”… كان هذا لسان حال أطفالنا في كل المخيمات التي زرتها للمساعدة برفقة الفرق الطبية أو غيرها وبينما كان الجميع منشغلا في مساعدتهم بالمؤن الغذائية والدوائية ومستلزمات العيش البسيطة كنتُ أصرُ على مساعدتهم بالمحبة والعواطف، من خلال تقبيل الأطفال واحتضانهم واللعب معهم والاستماع إلى همومهم.

قد أكون قد نجحت فالجميع كانوا شهودا على تعلق الأطفال بي لكني لا أخفي عليكم أني قد فشلتُ فبمجرد تركي إياهم قد ضاع كل شيء فلا الأم تترك أولادها ولا الإنسان يترك إنسانيته لكنه الوطن الذي تخلى عنا جميعا فأصبح كل شيء خارج طاقاتنا…. كانوا يحلمون بالحياة فقط، الحياة ولا شيء سوى الحياة.

أرادوا هوية الانتماء لما يسمى الوطن، لكنه جرح البلاد وتفاصيل الحزن القديم الملاصق لحدود الوطن وها هم باتوا ذرة على هامش الحياة في قلب الوطن.
في إحدى المخيمات كنتُ برفقة أخ صحافي فحدثنا الطفلِ (صهيب محمد عبد الله) ذي العشرِ سنواتٍ بلسان فصيح عن معاناته من النزوح ومن ضمور العصب البصري الولادي الذي أصيب به.

،يقول صهيب، “لا فرقَ بالنسبةِ لي بين الخيمةِ أو بينَ منزلي؛ أنا هنا لا أرى شيئًا وهنالك لم أكن أرى شيئًا! من أنتم؟ ما أشكالكم؟ ما ألوانكم وما هي الألوان أصلًا؟! أنا لا أريدُ شيئًا من مساعداتكم، فقط دعني أرى الدنيا التي تتحدثونَ عنها واتركوني مدى حياتي في المخيم”،

ثم استدرك “لكن أرجوكم أرجوكم احموني من هذا البرد القارص؛ فرغم أنني أعمى لا أرى شيئًا لكني أرى البرد يوميًا مثلما أرى معاناةَ أهلي وشكواهم.. أرجوكم عودوا للعب معي مرة ثانية فالصبية هنا لا يلعبون معي!”.

كنتُ ألعب مع بعضهم وأستمع لآخرين فتفاجأت بمواهب كبرى بينهم، ولا أعرف أهي ولادة الإبداع من الأزمات أم هي موهبة يمنحها الله لمن يشاء، فما زلتُ أذكر كلمات تلك الطفلة وكأنها رصاصة من نار تدق في أذني: “حياتنا عبء عليكم”!! ثم استرسلت قائلة: “نخدع أنفسنا بحثًا عن أملٍ في وطنٍ لكن هيهات هيهات! فقدنا الأملَ حينما رأينا ضياعَ الوطنِ وانفراطِ حباتِ مسبحته، عندما رأينا سقوطَ مكارم الأخلاق وسقوط كونية الإنسان” ألا تستطيعون حمايتنا من هذا البرد الشديد القارص؟! أيها العالم! نحن بشر مثلكم لا نطلبُ منكم سوى أن تعاملونا على أننا بشر فحسب فلسنا بشحاذينَ ولا بمتسولينَ. كلنا ننتمي لأصول هذه البلاد لكنكم تعدوها وطنا لكم أما نحن فلا وطن لنا سوى المخيم!” في المخيم يا سادة يشعر الإنسان فقط بالوحشية أما الذي لا إنسانية لقلبه فلا شعور له سوى الظهور بالمظهر الحسن بالتصدق والتجمل بمظهر الملاك الذي يقدم المساعدة. نحن يا سادة وحوش بهيئة بشر فكيف لقلب له كل طاقة التحمل والزمان ينكسر بالحاضر والماضي والوطن ليس الشوارع والمباني، هو ليس التأريخ ولا الجغرافية، هو ليس الطين أو الرمل، ولا النهرين القادمين من تركيا وسوريا، كما أنه ليس الغبار القادم من السعودية.. الوطن يا سادة هم الناس المحيطون بك وما سُمي الإنسان إنسانا إلا من المؤانسة لكنا في سجن بلادنا ناس ولكن لا أنيس بنا وأرض خطفتها الخرافات والأساطير، فلقد أجهضوا فينا الحرية قبل أن نعلم أننا أحرار وما علمنا! أحدثكم بلسان حال المخيم فتلك لعنتنا الأزلية، أطفال بلا تعليم، مرضى بلا علاج، مواطنون بلا هوية، محبون بلا انتماء، فإلامَ وحتامَ نخدع أنفسنا بالإنسانية والرحمة التي ما هي إلا كذبتنا الخالدة ونحن نرى أمام أعينا فراشات مهاجرة داخل البلاد نفسها لا مأوى لهم سوى قارعة العواطف وحنين الحرمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى