تأملات – جمال عنقرة – السياسيون السودانيون .. تجمعهم المصائب وتفرقهم المكاسب (1)

ما دعاني للتأمل في هذه المسألة، واسترجاع بعض مشاهدها السابقة حالة التشظي والتشتت التي أصابت كثير من قوي المعارضة السودانية السياسية والمسلحة بعد نجاح ثورة ديسمبر المجيدة، وسقوط نظام الإنقاذ، ووجدت لو أني عدت بهذا الشريط إلى تاريخ بعيد لطال الحديث لذلك اكتفيت باستعراض بعض المشاهد ابتداء من الجبهة الوطنية التي تكونت بعد انقلاب الشيوعيين واليساريين والقوميين العرب في الخامس والعشرين من شهر مايو عام 1969م، علي الديمقراطية الثانية.
تكونت الجبهة الوطنية لمناهضة انقلاب مايو وضمت أحزاب الأمة والاتحادي والحركة الإسلامية، وبدأ الجبهة مواجهتها لنظام مايو في الجزيرة أبا. تلك المواجهة التي قال عنها الراحل المقيم الشريف زين العابدين الهندي في ملحمته الشعرية الخالدة أوبريت سودانية، (أبا القديم وجديد بقت معروفة) واستشهد في تلك المواجهة غير المتكافئة امام الأنصار الشهيد الإمام الهادي المهدي في درب الهجرة إلى الحبشة، وكان قد استشهد لتغطية خروج الإمام المجاهد الإسلامي الدكتور محمد صالح عمر، واستشهد قبله المئات من الأنصار والمهاجرين، ونجا بفضل الله تعالي المرحوم الشيخ محمد محمد صالح الكاروري أحد القادة المؤسسين للحركة الإسلامية في السودان، ونجا بأعجوبة القيادي الإسلامي الذي كان وقتها لا يزال شابا تخرج في جامعة الخرطوم، وعمل في الإذاعة السودانية المجاهد مهدي إبراهيم محمد، فلحق المهاجرون الناجون بالزعيم الوطني الاتحادي المجاهد الجسور الشريف حسين الهندي، الذي كان أشرس المناهضين لنظام مايو، ولما توفاه الله تعالي، ووصل الخبر إلى الرئيس الأسبق المشير جعفر محمد نميري، قال نميري (أمانة ما مات راجل) ونهض من مقعده، وقرأ الفاتحة علي روحه الطاهرة، له الرحمة والمغفرة، فتكونت الجبهة الوطنية برئاسة الشريف حسين، وكان من قادتها المرحوم الدكتور عمر نور الدائم، والأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد، والمرحوم الأستاذ عثمان خالد مضوي، ولما خرج السيد الصادق المهدي من السودان، ولحق بهم في الخارج، تنازل له الشريف حسين من الرئاسة، وكان منطق الشريف أن أكثر المجاهدين من الأنصار، فاكراما لهم يجب أن يكون امامهم هو رئيس الجبهة، فتولي السيد الصادق الرئاسة، وعاش مجاهدو الجبهة الوطنية حالة تلاحم وطني فريد في معسكرات الإعداد في الحبشة وليبيا، ومن هناك قادوا الانتفاضة المسلحة المشهورة التي دمغها إعلام مايو باسم المرتزقة في يوم الجمعة في الثاني من شهر يوليو عام 1976م، التي قادها الشهيد العميد محمد نور سعد، وكان من أبطالها الشيخ إبراهيم السنوسي، والمجاهد عبد الرسول النور، والأمير أحمد سعد عمر، والسيد مبارك الفاضل، والشهيد الدكتور محمود شريف، والدكتور غازي صلاح الدين، والشهيد عبد الإله خوجلي الشقيق الأكبر للأستاذ حسين خوجلي، والشهيد الدكتور عبدالله ميرغني الشقيق الأكبر للصحفي عثمان ميرغني، والبروفيسور عوض حاج علي، والدكتور علي الخضر، ومئات الشهداء من المجاهدين والأنصار.
وبرغم الروح الوطنية العالية، والتجرد المخلص الذي تحلي به المجاهدون وهم يعدون لتلك الملحمة البطولية التي خلدوها بدمائهم الطاهرة الذكية، فبمجرد أن لاحت بوادر النصر بدأت الخلافات والصراعات تدب وتسري في أوصال الجبهة الوطنية، وبين قياداتها، وصار كل طرف يحمل الآخرين أوزار فشل انتفاضة يوليو المسلحة، فالبعض يتهم بعضا آخر بتغيير السيارات، وجلب سيارات غير مهيأة، وغير مؤهلة لنقل المجاهدين، وبعض يتهم آخرين بتغيير المواقع خشية من أن يكونوا قريبين من مواقع الأثر لا سيما الإعلامي، بل إن بعضهم اتهم آخرين بالتخطيط لاغتياله بعد نجاح العملية، ويقول البعض أن قائد العملية نفسه الشهيد محمد نور سعد، اكتشف وجود مؤامرات تحاك ضده، والمعلوم والثابت أنه في الوقت الذي كانت فيه دماء الشهداء تراق في مطار الخرطوم، وفي دار الهاتف، وفي كوبري النيل الأبيض، وفي غيرها من المواقع التي كانوا يقاتلون فيها، كان بعض القادة العائدين في الطائرة يتنازعون مقاعد الحكم، وكانوا يظنون أن النصر قد اكتمل، وأن الحكم قد دان إليهم، ولم يكونوا يعلمون أن أطماعهم ومؤامراتهم قد أفشلت الانتفاضة الوطنية المسلحة التي توفرت لها كل عوامل النجاح.
نواصل بإذن الله تعالي

Exit mobile version