بقلم: قذافي محمد أحمد المنصور
تعيش الساحة في بلادنا واحدة من أكثر لحظاتها خطورةً تعقيدًا في تاريخها، ليس بسبب اشتعال الحرب واتساع رقعتها فقط، وإنما بسبب حالة الارتباك والانقسام في الخطاب السياسي، حيث يصرّ بعض الفاعلين على تبني روايات تتجاهل الحقائق، وتُشرعن للتمرد، وتغض الطرف عن حجم التدخلات الخارجية والانتهاكات الميدانية الجسيمة على اهلنا.
الحرب ليست صراعًا سياسيًا… بل مواجهة بين وطنيين وتمرد مدعوم
الحرب الدائرة اليوم ليست خلافًا سياسيًا قابلًا للتفاوض كما يحاول البعض تبسيطه، بل هي مواجهة فاصلة بين جيش وطني يقاتل دفاعًا عن أمن السودان واستقراره ووحدته، وبين مليشيا متمردة مرتهنة بالكامل لقوى خارجية ترى في السودان ساحة نفوذ ومصالح، ولا تتردد في الدفع به نحو الفوضى والدمار ولو كان الثمن آلاف الضحايا وملايين المهجرين.
إن وصف هذه المواجهة بغير حقيقتها هو تضليل متعمَّد، ومحاولة لتجميل مشروع تخريبي تُموِّله جهات إقليمية وتديره أجهزة خارجية، تُسخِّر له كل الإمكانات لتحقيق أجنداتها على حساب دماء السودانيين ومستقبل وطنهم.
من يزيف الحقائق… شريك في مشروع التمرد
لم يعد تزييف الحقائق مجرد انحياز سياسي أو سوء تقدير، بل أصبح امتدادًا مباشرًا لمشروع التمرد نفسه. فحين يتعمد البعض قلب الوقائع، وتبييض صورة المليشيا، وتشويه مؤسسات الدولة، فإنهم عمليًا يؤدون الدور ذاته الذي يسعى إليه التمرد: ضرب الثقة في الجيش، وإضعاف الجبهة الداخلية، وتهيئة البيئة لتوسع نفوذ الجهات الخارجية الداعمة له.
إن معركة السودان اليوم ليست فقط في الميدان، بل في الوعي أيضًا، ومن يتلاعب بالوعي ويخدم الأكاذيب هو جزء من المشكلة، وشريك – بقصد أو بغير قصد – في استهداف الوطن. فالحقائق لا تُزوّر إلا حين تكون مطلوبة لخدمة مشروع مظلم، ومن يقبل أن يكون أداة في هذا المشروع لا يختلف كثيرًا عن من يحمل السلاح ضد البلاد.
إنكار الدور الخارجي… غطاء سياسي يمنح التمرد ما لم يكسبه بالسلاح
ورغم وضوح الأدلة على حجم الدعم الذي يتلقاه التمرد من جهات خارج الحدود، تصرّ بعض القوى السياسية على إنكار هذا الدور أو التقليل من أثره، في موقف يفتقر إلى الحدّ الأدنى من الموضوعية.
هذا الإنكار لا يمثل مجرد اختلاف في الرأي؛ بل يتحول إلى غطاء سياسي يمنح التمرد شرعية مزيفة، ويفتح الباب أمام المزيد من التدخلات التي تعمل ليلًا ونهارًا لتفكيك الدولة السودانية وإعادة تشكيلها بما يخدم مصالح الآخرين.
تجاهل الانتهاكات بحجة الخلاف السياسي… سقوط أخلاقي قبل أن يكون سياسياً
وما يزيد الأزمة تعقيدًا هو أن بعض القوى السياسية لا تكتفي بإنكار التدخلات الخارجية، بل تمارس صمتًا مدروسًا تجاه الانتهاكات الوحشية التي ترتكبتها المليشيا المتمردة في المدن والقرى التي كان اهلها البسطاء آمنين.
بدافع الخصومة السياسية أو الحسابات الضيقة، يتغافل البعض عن الجرائم بحق المدنيين، وكأنها تفاصيل بسيطة يمكن تجاهلها أو مقايضتها ضمن لعبة المصالح.
لكن الحقيقة أن المبادئ لا تُجزّأ، والجرائم لا تُبرّر، والحقوق لا تُقايض. ومن يصمت عن الانتهاكات اليوم سيُحاسبه التاريخ غدًا، لأن صمته كان شراكة غير معلنة في الجريمة.
الهدنة ليست نهاية… بل فرصة للتمرد
ما يُسمّى بالهدنة التي يدعو لها البعض لن تكون إلا استراحة قصيرة بين شوطين، تمنح المليشيا المتمردة فرصة لإعادة ترتيب صفوفها، وتجديد دعمها الخارجي، والاستعداد للعودة أقوى وأكثر إضرارًا بالوطن في الشوط الثاني.
أي تصور للسلام الجزئي أو المؤقت دون تصفية أسباب التمرد الحقيقية هو وهم، وسينتهي بعودة المواجهة بعنف أكبر. بلادنا بحاجة إلى رؤية واضحة وشاملة لوقف إطلاق النار، لا إلى هدنة مؤقتة تمنح العدو فرصة لإعادة بناء قوته على حساب دماء المدنيين ومستقبل الدولة.
تحالفات مرحلية… والتمرد لا يُخلص لأحد
التمرد لا يقيم ولاءً حقيقيًا لأي طرف سياسي محلي؛ فتحالفه مع بعض السياسيين مرحلي فقط، يحقق من خلاله أهدافه ثم يتخلى عنهم بمجرد أن تنتهي حاجته لهم. هذا التحالف الزائف قائم على المصلحة الضيقة للتمرد وداعميه الخارجيين، وليس على أي التزام تجاه الوطن أو الشعب. أي طرف سياسي يختار الوقوف بجانب المتمرد اليوم، بغض النظر عن حجج الانقسام الداخلي، يضع نفسه في موقع الخطر والغدر، وسيسجل التاريخ موقفه بين المتعاونين مع الخراب.
تأجيل الخلافات وتوحيد الجهود لإنقاذ الوطن
في هذه اللحظة الحرجة، لا مبرر للخلافات السياسية ولا للمصالح الضيقة على حساب مصلحة الوطن. إن الأولوية القصوى يجب أن تكون توحيد الجهود الوطنية لمواجهة الأزمة وحماية السودان من التمزق والفوضى. كل الأطراف السياسية مطالبة بوضع الخلافات جانبًا والعمل بشكل متكامل مع القوات الوطنية والمؤسسات المدنية لإنهاء الأزمة، وحماية المدنيين، وإرساء السلام الحقيقي المستدام. فالوقت لم يعد يحتمل الانقسامات، والوطن يحتاج إلى كل الطاقات المخلصة من أجل البقاء والاستقرار.
ختاماً
إن أزمة بلادنا نتاج تلاقٍ بين خيانة الداخل وتدخلات الخارج، ولا يمكن لأي قوة سياسية تدّعي الوطنية أن تتجاهل إحدى الحقيقتين.
والسودان اليوم لا يحتاج إلى مواقف رمادية ولا حسابات مؤجلة، بل إلى وضوح في الرؤية وشجاعة في قول الحقيقة، وإدانة صريحة لكل تمرد، وكل تدخل خارجي، وكل انتهاك يرتكب في حق هذا الشعب المغلوب على أمره.
التاريخ يكتب الآن… وسيسجّل بدقة من وقف مع الوطن، ومن وقف مع من أرادوا إسقاطه.
