الفاشر.. المدينة التي فتحت للصحراء طريق الفوضى

بقلم: د. عبدالناصر سُلّم حامد
مدير برنامج شرق إفريقيا والسودان – مركز فوكس للأبحاث، السويد
باحث متخصص في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب

في الفاشر لم تسقط مدينة فحسب؛ انهارت بوابة السودان الغربية التي كانت، لعقود طويلة، تحمي الساحل من رياح الصحراء.
ولم يكن ما جرى في أواخر أكتوبر 2025 (26 أكتوبر وفق تقارير هيومن رايتس ووتش) مجرد واقعة عسكرية، بل زلزال سياسي وأمني غيّر وجه الإقليم بأكمله. فبعد حصار استمر أسابيع، ووسط دمار طال المستشفيات والأسواق والمنازل، سيطرت قوات الدعم السريع على المدينة، لتفتح فصلًا جديدًا من الحرب السودانية، فصلًا لا يتوقف عند حدود دارفور بل يمتد إلى قلب الساحل الإفريقي.

لقد منحت هذه السيطرة قوات الدعم السريع مساحة نفوذ واسعة تمتد حتى حدود ليبيا وتشاد، ووفّرت لها موارد مالية عبر السيطرة على مناطق الذهب ومسارات تهريبه. وتشير تقارير أممية وتحقيقات بحثية إلى أن المسار المعروف تاريخيًا — والنشط حاليًا — من جبل عامر إلى كوري بوغودي ثم سبها الليبية بات أحد أهم خطوط التهريب في القارة، ما جعل من اقتصاد الحرب في دارفور شريانًا مفتوحًا للثروة والسلاح معًا.

لكن النصر العسكري لم يتحول إلى استقرار مدني. فالقوة التي تجيد إدارة المعارك لا تملك بالضرورة القدرة على إدارة المدن.
الفاشر اليوم، مثل غيرها من مدن دارفور، تواجه فراغًا إداريًا وأمنيًا كبيرًا. المدارس مغلقة، والمستشفيات تعمل بموارد شحيحة، والحياة اليومية تسير بلا مؤسسات حقيقية. ما بدا انتصارًا عسكريًا تحوّل بسرعة إلى فوضى صامتة يختلط فيها السلاح بالحاجة، والانتصار بالانهيار.

في المقابل، وجد الجيش السوداني نفسه محاصرًا بنمطية الحرب القديمة. قواته المتمركزة في القواعد الجوية والثكنات الثابتة لم تستطع مجاراة خصمٍ يتحرك بخفة ومرونة في تضاريس يعرفها أكثر.
وهكذا، تحوّل الصراع في دارفور إلى نموذج لحرب مفتوحة بلا خطوط واضحة؛ حرب تتقاطع فيها السياسة بالاقتصاد والإعلام، وتُعاد فيها صياغة مفاهيم النصر والهزيمة كل يوم.

تداعيات سقوط الفاشر لم تتوقف عند الداخل السوداني. فبعد أيام قليلة، أعلنت تشاد في 31 أكتوبر 2025 إغلاق معبر أدرِيه الحدودي، في خطوة تعكس القلق من تسلل المقاتلين وانتشار السلاح. وتشير بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) إلى أن تشاد تستضيف اليوم أكثر من 900 ألف لاجئ سوداني فرّوا من دارفور منذ عام 2023. ومع تزايد الضغط الإنساني، انتقلت نجامينا من سياسة الانفتاح الإنساني إلى سياسة التحوّط الأمني، ونشرت قوات إضافية على طول الحدود. لم يكن هذا الإغلاق مجرد إجراء إداري، بل إنذار مبكر لمدى هشاشة الإقليم بأكمله.

الحدود الأخرى لدارفور لا تبدو أفضل حالًا. شمالًا تمتد الصحراء نحو ليبيا عبر طرق تهريب مفتوحة تصل إلى سبها وفزان. ومن الجنوب الغربي، تتقاطع حدود إفريقيا الوسطى مع مناطق ينتشر فيها مسلحون من جماعات مختلفة — من بقايا “سيليكا” إلى فصائل “أنتي بالاكا” — بينما ترتبط هذه الشبكات بطرق تهريب الذهب والسلاح. أما من الجنوب الشرقي، فتمرّ خطوط التجارة غير الرسمية نحو جنوب السودان، حيث تُستخدم الماشية والوقود كسلع تبادلٍ في اقتصاد ظلٍّ عابر للحدود.

كل ذلك جعل من دارفور مركزًا لعالمٍ غير مرئي من المصالح القبلية والتجارية والعسكرية، حيث تتقاطع شبكات المهربين والتجار والمسلحين في غياب الدولة. ومع مرور الوقت، أصبحت هذه الشبكات بديلاً فعليًا لمؤسسات الحكم، تدير الموارد وتفرض قواعدها الخاصة.

هذا الفراغ لا يفتح فقط شهية الحركات المسلحة المحلية، بل قد يغري جماعات من خارج السودان. فالإقليم مهيأ لأن يتحول إلى ملجأٍ مفتوح للحركات الإقليمية القادمة من تشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان. في الشمال الغربي تنشط جماعات معارضة تشادية لها تاريخ في التحرك بين ليبيا ودارفور، وفي الجنوب الغربي تظهر فصائل إفريقية تتقاطع مصالحها مع تجار السلاح، أما في الجنوب الشرقي، فالتوتر يهدد بالتمدد نحو مناطق حدودية في جنوب السودان.

ورغم أن دارفور لم تشهد حتى الآن نشاطًا موثقًا لجماعات متطرفة، فإن هشاشة الأمن وازدهار اقتصاد التهريب يجعلانها بيئة خصبة لاحتمال تسللها مستقبلًا. فالمسالك الصحراوية المفتوحة والفراغ الأمني يشكلان مزيجًا مثاليًا لأي تنظيم يبحث عن موطئ قدم جديد. وتشير دراسات حديثة صادرة عن مراكز بحثية دولية إلى أن أنماط تهريب الذهب والوقود في دارفور تشبه إلى حد كبير تلك التي تموّل الجماعات المتطرفة في الساحل الغربي، حيث تمتزج التجارة غير المشروعة بالأجندات الأيديولوجية في فضاء واحد من الفوضى.

وفي ظل غياب التنسيق الإقليمي، قد تصبح دارفور “الشرارة الشرقية” لمنطقة الساحل، إذا استمرت حالة الانهيار.
فالإقليم الذي كان يومًا رمزًا للتنوع الثقافي، بات اليوم نموذجًا لتفكك الدولة وتحوّل الموارد إلى وقودٍ للحرب.
المأساة لا تكمن في سقوط مدينة، بل في فقدان القدرة على تخيّل مستقبل آمن.

إن دارفور اليوم ليست مجرد ملف إنساني أو عسكري، بل عقدة أزمات إفريقية تتقاطع فيها خطوط الذهب واللاجئين والبشر.
وما لم يتمكّن السودانيون ومعهم الإقليم من استعادة زمام المبادرة، فإن الفوضى لن تتوقف عند حدود السودان.
ستزحف، ببطء ولكن بثبات، عبر الرمال الممتدة حتى قلب الساحل الإفريقي، حيث تتلاقى المصالح والأزمات بلا فواصل ولا حدود.

(المصادر: تقارير الأمم المتحدة، دراسات ميدانية، Chatham House، Global Initiative، UNHCR – حتى نوفمبر 2025

Exit mobile version