دكتور عبدالوهاب همت
هناك من يُقدِم خدمة الآخرين على نفسه والتي يبذلها رخيصةً وسهلة ومتاحه في أي وقت من الأوقات.
الذين يتقدمون الصفوف دائماً ما تكون في جيناتهم الوراثية أشياء متوفرة سلفاً تنمو وتتطور وفقاً لرغبة الشخص وإستعداده للبذل والتضحيه والفداء والكرم والجود وقضاء حوائج الآخرين والدفاع عنهم والتصدي لقضاياهم حتى لو إقتضى الأمر تقديم النفس رخيصةً في سبيل ذلك.
تعود علاقتي بالشهيد الملك شريف إلى فترة لم تتعدى الاربعه أعوام ، إذ إلتقينا في فاشر السلطان والتي ذهبت إليها بتكليفٍ مباشر وهو بمثابة تشريفٍ من الصديق القائد مني أركو مناوي للعمل في دارفور علنا نُساهم معه ومع بنات وأبناء دارفور في نهضة الإقليم ونموه وتطويره وفق خطط وبرامج مدروسه تم الاعداد لها بدقة ومن قبل مجموعة من المختصين أُنجِز بعضها وهي تقف شامخةً الان ومن أهم رسائل حاكم الاقليم والتي كان يُشدد عليها ولازال ، هو الانسان في دارفور تنميته وتعليمه وصحته بدأها بمشروعات ضخمة مثل تشييد السدود والمدارس وتكريم المتفوقين وبناء الطرق والجسور وفتح حدود الاقليم للتجارة الدوليه …الخ…، وله ولحكومته في ذلك مشروعات سيأتي يوم ذكرها ، ولولا الحرب اللعينه وبعض تعقيدات أخرى لرأها الناس رأي العين.
ولأن الملك شريف سليل ملوك كرام يعرف الواجب والأصول قصد أن يختلي بنا بترصد ومتابعة، وكان حريصاً في المبادرة والسؤال وتقديم نفسه بشكل بسيط إذ فعل ذلك على طريقة المربي الفاضل والاستاذ الجليل انا اخوكم ….وإلتفت نحونا بسرعه وفطنه وبإبتسامه لاتخطئها العين وعمكم شريف آدم طاهر) .
سأكتب لك وعنك يا أستاذ شريف بلغة تستحقها ويُحِبُها الاساتذة وأنت أحدهم ، فمقامكم سامٍ ورفيع ، وهاماتكم عاليه ، فأنتم من قادوا الناس من دياجير الظلمات إلى أضواء العلم والنور.
طريقة تعريفه بنفسه كانت تنُم عن أنه شخص متفرد ، عندها تداخل البعض مقاطعين .. وما ملك؟؟؟؟
وفي نفسه هدوئه وصوته الجهوري وسمته وأناقته المعهوده وبصوت الاستاذ الجهوري قال .. (نعم أنا الملك شريف آدم طاهر وطبعاً الشباب ديل مابعرفوني وهم حالياً ماناس ممالك ومشايخ وعمد وشراتي وكده..). إلتقط الحضور رسالته.
منذ تلك اللحظه لم ينقطع تواصلنا دعانا إلى داره المضيافه في درجه أولى في فاشر السلطان ولعدة مرات ، فالدار دار ملك والابواب مشرعةٌ أمام الزوار ليل نهار وفي أيام تواجده تجد عشرات الناس من كل طبقات المجتمع الفاشري ، ومن كثرتهم وكعهد أبناء الاسر الكريمه لايخصص وقته لمجموعه واحده تراه يجلس مع هذه المجموعه ويغادرها الى المجموعه الاخرى وينتحي جانباً بأصحاب المواضيع والقضايا الخاصه ، ويعود معتذراً فقد كانت شواغله كثيره وشائكه ومعقده ، لكن الابتسامه لاتفارق محياه.
كثيراً ماكان يزورنا في بيت الوالي حتى ولو لدقائق معدودات سائلاً ومتفقداً الاحوال وأحياناً نتناقش في ( ساس يسوس) .
كان بسيطاً بساطة الكرام ، أذكر أثناء زواج صديقنا الباشمهندس عبدالباقي محمد حامد من إبنة رفيق درب الملك وصديق روحه الملك داؤود سالم تقتل ، كان يجلس متابعاً لكل اجراءات سير مراسم الاحتفال وبهمةٍ عاليه فعبدالباقي كان بالنسبه له بمثابة الابن والصديق.
لم أسمعه رافعاً صوته على أحد ولم أراه مشتجراً مع أحد ، يقول مايود قوله وبالشكل اللائق المناسب المقترن بشخصية الاستاذ الملك أو الملك الاستاذ وداخل كل هذه الشخصيات التي يوصف بها يُشرق إسمه كالشمس وهو إسماً على مسمى شريف آدم طاهر.
كثيرون حكوا لي عن أشكال وأنواع حكمته من رفاقه في الادارة الأهليه ، وماذُكر إسمه إلا وكان أن تجلت حكمته وخبراته المكتسبه والمتوارثه أباً عن جد.
ذكر لي أستاذنا عبدالحميد نورين طاهر أن الشهيد الشريف آدم طاهر كان في إحدى جولاته أن وقع حادث سير نتج عنه وفاة أحد المرافقين له وهو ومن أبناء كردفان ، وهنا قام الملك الشريف بالتواصل مع أهل المتوفى وقطع معهم موعداً ووعداً في الوصول إليهم بعد ثلاثة أيام ، وفي الاثناء تم تجميع مال الديه ليدفع لأهل المتوفي ، وكان الشريف الملك قد وصل الى أهل المتوفي في اليوم الثاني وليس اليوم الثالث كما تم الإتفاق ، وفي مثل هذه المواقف لايفي البعض بوعوده.
كان الملك قبل الموعد بيوم مؤدياً واجب العزاء ، وخطب فيهم خطبةٌ تليق به كشريف وملك وأسقط في يد أهل المتوفي ، والذين لم يكن أمامهم هو الإصرار والرفض القاطع لاستلام مال الديه الذي أحضره الملك الشريف كاملاً كما إتفقوا عليه قبل وصولهم .
أمام التعنت الشديد والرفض القاطع لاستلام الديه والعفو عن السائق لان الموت ليس مدبراً ولا مخططٌ له وضرورة أن يعود الملك الشريف بالمال مرةً اخرى ، هنا وببساطة شديدة ،مستفيداً من كل تجاربه في التربيه والتعليم وفنون المُلك وبعبقرية الملك قال لهم ، نشكركم على هذا الموقف النبيل الجميل ونقبل إعتذاركم ورفضكم لاستلام الديه ، لكننا نرجوكم رجاءً أخوياً صادقاً وبما أن للمتوفى أطفال صغار نتوسل إليكم في قبول هذا المبلغ كمساهمة منا في تربية هؤلاء الاطفال، فهذا واجبنا تجاههم وواجبكم أن تقبلوا توسلنا لكم، هنا لم يكن أمام اهل المرحوم سوى القبول والرضا الكامل بالأمر.
هذا جانب واحد وواقعه جديرة بالتأمل والوقوف عندها كثيراً.
كان الاستاذ شريف كثيراً مايتدخل في قضايا فض النزاعات بين المزارعين والرعاة لم تقتصر على دارفور بل وإمتدت إلى كردفان فقد كانت سمعته تسبقه على الدوام ويذكر إسمه مقروناً بالخير.
حدثني لمرات عديدة عن علاقات ممتدة مابينه وال منعم منصور وآل مادبو. وآل السماني وآل علي الغالي وكل إسمٌ من هؤلاء علمٌ ، كان يتبادل معهم الهدايا ويتزاورون في الافراح والاتراح.
نهل الملك من تجارب والده الكثير وهو الذي صاهر عدة قبائل وللملك شريف عدد من الاخوات والاخوات غير الاشقاء.
في جولاتنا الكثيرة عرفنا وقدمنا بعدد من الشخصيات الهامه من رفاقه في الادارة الاهليه وفي سلك التربيه والتعليم وغيرها وكلهم كان كما زميلهم وصديقهم الشريف الملك.
في زيارةٍ لنا الى قرية الدور ونحن عابرين أصر أن نقضي معه بعضُ وقتٍ ، حدثنا عن تاريخ دار والدهم العامرة متطرقاً الى ان الدار تحتاج الى صيانة شامله ، تدخل احد الحضور واقترح ان يهدم المسكن ليُعاد تشييده من جديد لكن وجهة نظر الاستاذ والملك شريف كانت مختلفه حيث أنه يرى ضرورة الإحتفاء بالشكل القديم للمبنى وهي نظره عصريه عقلانيه تنظر الى ضرورة الاحتفاء بالاثار وأهميتها.
ضمن حكاويه وسرده الجميل الذي لاينتهي حكى وبكل فخر عن سنوات عملٍ قصاها أستاذاً معلماً في اليمن إمتدت كما اعتقد من الاعوام ٨٦ الى ١٩٩١م. الفكره فيها إشارة ودلاله واضحه ان الرجل هاجر وهو إبن ملك وعشيره كبيرة وممتدة ، في الوقت نفسه عمق رسالته تتجلى في انها تعني الاعتماد والاعتداد بالنفس.
الموت هو الموت لايحبه أحد ولايتمنى أحد يوم مجيئه ولا ساعته، لكن هناك من يلاقي الموت رابطاً جأشه غير هياب ومستعدٌ لذلك في أي لحظه.
الشهيد الاستاذ الملك الشريف شريف آدم طاهر ورفاقه إستقبلوا الموت وفاضت أرواحهم الطاهره في أقدس مايمكن من أمكنه وفي أرقى وأنظف وأجمل بيت من البيوت التي لا تعلو فوقها بيوت أخرى.
الاستاذ الشهيد شريف ورفاقه ممن كانوا يرتادون المسجد كانوا يعلمون أن الموت يحيط بهم إحاطة السِوار بالمعصم ، لكنهم ما إختبأوا ولا تواروا ذهبوا لإداء شعيرةٍ مفروضة عليهم وفقاً لقناعاتهم وهم يعلمون علم اليقين أن مسيرات الموت قد تقضي عليهم في أي لحظه، لكن إيمانهم العميق أشاد أمامهم سور الشجاعه وحجب عنهم أي ذره من الخوف.
إستشهد الشريف شريف ورفاقه وفيهم أساتذة الجامعات وطلابها ومسئولين حكوميين وعسكريين والكثيرين الذين إستقبلوا الموت لترتقي أرواحهم شهداءً للعقيدة للوطن ولمدينة الفاشر التي أحبوها وتشبثوا بها وماغادروها إلا وهم شهداء .
، فالصمود والبسالة عنوان بارز للفاشر واهلها الذين تمددت سيرتهم لتغطي كل العالم ومعظم قيادات هذا العالم صامته لاتحرك ساكناً تجاه أبرياء عزل وتجاه أطفالٍ يقضون أياماً بلياليها داخل الخنادق فلاضوء شمس ولا كوب لبن ولا أكل يسد الرمق، وترتعد أوصالهم وهم يسمعون أزيز الرصاص وصوت المتفجرات وصيحات المصابين ونواح الثكالى وهم اطفال كان حريٌ بهم أن يلعبوا ويتسامروا كما يفعل رصافائهم في كل الدنيا.
هؤلاء الاطفال يدخلون عامهم الثاني وهم لم يتلقوا التحصين ضد الامراض الفتاكه الشلل التاتنوس الدفتريا الحصبه الجدري السل.
فما ذنب هؤلاء الاطفال.
أطباء مناضلون يجرون أعقد العمليات على أضواء الموبايلات ، يضمدون جراح المرض بقطع القماش .
الموتى يتم تكفينهم بأكياس البلاستيك أو الملابس التي على أجسادهم، ونحن أمةٌ تكرم موتاها وتُعطِرُ جثامينهم وتتلقى التعازي والمواساة فيهم في الصيوانات أو المنازل أو …..
بأي ضميرٍ سينام الشخص الذي أطلق هذه المسيرة على هؤلاء الابرياء العُزل ، وكيف سيواجه نفسه بنفسه بعيداً عن أي تدخل قانوني أو إنساني أو أخلاقي أو قيمي؟
المجزرة التي حولت المسجد الى مقبرة يصعُب تجاوزها أو تناسيها .
وحيثما كانت الاقلام الشريفه كتبت، وحيثما كانت الضمائر إستيقظت. فالقلوب أدميت والدموع إنهمرت ألماً وحسرة ، وحزن مُمِض يطلي الحلوق.
فيا شهداء الفاشر الأكف مرفوعةٌ تتضرع لقبولكم القبول الحسن ، فهو إستشهاد لايعتقد أحد أنكم خططتم له مسبقاً لكنها الشهادة أتتكم ناثرةً فوقكم غطاء الشرف وتسبق اسماءكم وتعبد لكم الطرق إلى عالي الجنان.
الشريف الملك كنت أتمنى أن نلتقي ويأتي يوم الاحتفاء والتكريم لكم بقدرما بذلت طوال رحلتكم العامرة ولكنها الاقدار تنسف مانخطط له.
الشهيد الاستاذ الملك الشريف شريف آدم طاهر فيك أعزي كل أهلك واصدقائك ورفاقك وأرملتكم الحاجه آمنه نورين طاهر ، وبناتك أسماء وآيات وألاء وابناؤك مبارك ومروان ومعز.
ولصديقكم المكلوم الملك داؤود سالم تقل.
لقد كنت رمزاً وعلماً من رموز الوفاق والتصالح والسلام، فأرقد بسلام
ويغشاكم الغمام.