الوطن ليس خطًا جغرافيًا على خارطة، ولا ختمًا على جواز سفر. هو اللحظة الأولى التي تفتح فيها العين على نور الحياة، وصوت الأم الذي يهمس بالأمان، ورائحة الخبز في الصباح وهو يخرج من الافران ، وطعم العصيدة و”التقلية” التي تُطهى بحب، هو “الدامرقة” و”أمرقيقه” و”القراصة” التي تُقدَّم بسخاء للكادحين بعد يوم طويل من الكدّ والعطاء. الوطن هو الذاكرة التي تنبعث من تفاصيل الجدات، ومن قدح الطعام الكبير في خلاوي دارفور، ومن “الكول” الذي يُقدَّم للضيفان في كردفان، ومن “الكمونية” و”أم فتفت” التي لا التي لا تجدها الا السودان، ومن “الدخن باللبن”، و”النعيمية”، و”الشرموط”، و”شربات القنقليس” و في خميس طويرة في مجوز طلبة المدارس بالداخليات . الوطن هو نكهة الأرض، وصوت النشيد في طابور الصباح، وهتاف المزارعين في مواسم الحصاد، وهو كل ما يسكن فينا دون أن يُلقَّن، بل يتسرّب إلينا كما يتسرّب ضوء الفجر من نافذة الطفولة.
الوطن هو الأغنية الأولى التي سمعناها من أفواه المزارعين في موسم الحصاد، والهتاف الطفولي في طابور الصباح: “صباح الخير يا وطني”، والنشيد الذي ردده القلب قبل اللسان.
إنه لا يُلقن كدرس، بل يغرس فينا في اللا شعور ، ويكبر كلما كبرنا، حتى يصبح ركنًا أصيلًا من وجداننا وشخصيتنا.
الوطن ليس مجرد أرض نعيش فوقها، بل هو القصيدة التي نحملها في القلب، والظل الذي نستظل به حين تضيق الحياة، والانتماء الذي نلجأ إليه حين يضيع كل شيء. الوطن هو نحن، هو حكايتنا، وذاكرتنا، ومكان أول فرحة وأول دمعة. نحن الوطن، إن ضاع ضاعت ملامحنا، وإن بقي، بقينا له عشقًا وامتنانًا.
لكن الانتماء لا يأتي تلقائيًا دائمًا، بل يحتاج إلى رعاية وتغذية مستمرة تبدأ من الطفولة، من الحكايات الشعبية، والجلوس مع الكبار، و”صبة الإبريق” لغسل الأيادي للكبار ، والأساطير، والأهازيج، وتمتد إلى الكتب المدرسية والمناهج التي تعرّف الطفل بتاريخه وجغرافيته ورموز بلاده. تُزرع بذرة الوطنية حين نقدر الرموز الوطنية ونحتفي بمن صنعوا الفكرة والهوية، في العلم والأدب والفن والدين والسياسة والمقاومة.
في أحد الأيام، وبينما أتابع دردشة الأسرة في إحدى مجموعات التواصل، لفت انتباهي أن كثيرًا من الصغار، خصوصًا من يدرسون بالمناهج الأجنبية، لا يعرفون شيئًا عن رموز السودان الذين شكلوا ذاكرته الثقافية والسياسية. فخطرت لي فكرة بسيطة: مسابقة عائلية نعرض فيها صور شخصيات وطنية مثل البروفيسور عبد الله الطيب، وندعو الشباب للبحث عن سيرتهم وتسجيلها بأصواتهم ومشاركتها عبر مجموعة العائلة.
وسرعان ما تحولت المجموعة إلى منتدى وطني نابض. تجاوزنا المئة شخصية، من الشعراء والمفكرين إلى المجاهدين والعلماء، من الأزهري والمحجوب وعبد الله خليل، إلى علي دينار والشيخ بدري، والشيخ البرعي، والزبير ود رحمة، وخلاوي الجيلي. حتى الأطفال صاروا يعرفون من هو كرومة، ومن أين جاء سرور، ولماذا كانت عائشة الفلاتية منعطفًا في الغناء السوداني. الجوائز كانت رمزية، لكن الأثر كان عظيمًا. لقد قرأوا، وفهموا، وربطوا أنفسهم بتاريخهم الحقيقي.
الوطنية لا تُختصر في رفع العلم، بل في أن نحتفي بعلمائنا حين يبدعون، وبأطبائنا حين يسهرون على الأرواح، وبشعرائنا حين يكتبون وجدان الأمة، وبنساء الوطن حين يصنعن التغيير، وبشبابه حين يحملون الوعي لا السخط. الوطنية عاطفة متجددة، لا يجب أن نتركها تذبل في زوايا الإهمال.
الوطنية قد تكون حاضرة وأنا بعيد عن الوطن، وأنا أطلب اللجوء إلى بلد آخر. فطلب الحماية لا يعني نفض اليد عن الأصل، بل قد يكون فسحة للتطور والتلاقي، لنعود أصلب وأنفع.
أذكر ذات مرة، في أحد أسفاري إلى لندن، تأخرت على المطار فطلبت سيارة أجرة. حضر رجل طويل القامة، ملامحه توحي بأصول كاريبية، فمعظم المنطقة من حولي من سورينام وجامايكا، فحسبته من هناك. تحدثت إليه بالإنجليزية فلاحظت صعوبة نطقه. بدا نطقه قريبًا من نطق بعض السودانيين. سألته: هل أنت سوداني؟ قال: نعم. فقلت: دعنا نتحدث بالعربية. وهذا يؤكد أن السودان هو أصل البشرية، حيث تلتقي كل الأعراق والألوان، ولكل جنس في البشرية شبه في السودان.
بدأ يحكي قصته. أقام في هولندا عشر سنوات، ثم حصل على الجنسية الهولندية. أمضى كل تلك السنين فقط من أجل الجواز وتعلم اللغة الهولندية وأجادها، لكنه لم يتقن الإنجليزية. سألني عن وجهتي، فقلت: الأردن. ابتسم وسألني: لماذا لا تبقى وتبدأ إجراءات الجواز البريطاني؟ أجبته بدهشة: كيف؟ فأجاب ببساطة: “آخذك لمحامٍ قريب من هنا، سيملأ لك استمارة اللجوء، فقط زوده بسيرتك الذاتية، وسيفصّل لك قصة تتناسب مع مهنتك، تكتب فيها عن اضطهاد أو خطر، المهم أن تكون مؤثرة”.
قلت له: أنا مدير إقليمي في مؤسسة بريطانية، لا وقت لدي، ولا أخلاق تسمح لي أن أختلق قصة عن وطني. قال: الكل يفعل ذلك. المهم أن تفعل ما بوسعك لتأخذ الجواز.
وصلنا إلى المطار، التقطنا صورة للذكرى، وافترقنا، لكن كلماته ظلت تتردد في ذهني: “اكتب قصة، حتى لو لم تكن حقيقية، تسئ فيها إلى وطنك وتأخذ الجواز”.
وهنا بدأت أفهم كيف تبدأ كراهية الأوطان. تبدأ حين نكتب ضد الأرض التي ربتنا لنرضي مؤسسات الهجرة، حين نؤلف قصصًا تشوه التاريخ، ونغتال الحقيقة من أجل إقامة.
لكن من الإنصاف القول: ليس كل من يحمل جوازًا أجنبيًا عديم الوطنية، وليس كل مهاجر قد خان وطنه. هناك من نال الجواز بطرق شريفة وتعرض لضغوط وظروف قاهرة، وهناك من تقطعت به السبل، لكن قلبه لا يزال يخفق باسم السودان. وهناك من حملوا وطنهم في قلوبهم رغم أنهم يحملون أوراقًا أجنبية. فالجنسية وثيقة، أما الوطنية فهي ضمير، وهناك من يعيش في لندن أو أمستردام وروحه ما تزال تسكن في أم درمان أو نيالا أو كسلا.
أما الحرب الأخيرة، فقد فجرت مأساة تتعدى الدمار، إنها تمس الشعور الوطني ذاته. الأطفال الذين رأوا النهب والاغتصاب والقتل، قد يكبرون وهم يحملون جرحًا في علاقتهم بوطنهم. وإن لم نحسن احتواء هذه الأجيال، فإنهم سيبتعدون وقد لا يعودون أبدًا.
وهنا، يُطرح السؤال: كيف نحتوي هذا التحدي؟ كيف نجعل من الجاليات منصات للربط بالوطن؟ كيف تكون الجمعيات والمدارس والمنهج الدراسي والإعلام والدراما والمسرح أدوات لبناء الانتماء لا تمزيقه؟ كيف نعيد الحكايات التي تربط القلب بالجذور؟ كيف نغني للوطن لا لنرضي غرورًا، بل لنحفظ ذاكرة؟ كيف نوظف المنابر والخطب لجمع الشمل وترقية الشعور بالوطن وحبه؟
وقد يظن البعض أن الفن والمسرح ليستا من الأولويات في زمن الحرب، لكنها في الحقيقة ضرورة ملحة، فهي الجسر الذي نعبر به إلى قلوب الأجيال، وهي الحبل الذي نربط به الذكرى بالهوية.
نحتاج إلى مشروع وطني ثقافي يربط السودانيين داخل الوطن وخارجه، بمحتوى حي، وسرد أصيل، وشخصيات يُحتفى بها لا تُنسى، وقصص تُروى للأطفال لا تُخفى عنهم. نحتاج أن نُعلم أبناءنا أن الوطن لا يجب أن يكون مثاليًا كي نحبه، وأن الهجرة لا تعني النسيان، وأنه كما لا نبدل أمًّا، لا نبدل وطنًا.
فالوطن ليس شعارًا في نشرة الأخبار، بل هو رقصة المردوم التي تنبض في غربنا الحبيب، والجراري الذي يهز وديان كردفان ويحرك الوجدان، والطمبور حين يُغنى على ضفاف النيل، وصوت النقارة في بلاد المسيرية، والكلش في جبال الأنقسنا، والسيسعيد في شرق السودان، والكرنق وكسوك في دارفور، ورقيص السماكة في البحر الأحمر، والكرن في جبال النوبة، والصقرية التي يحتفي بها أهلها، وكلها رقصات تعبر عن النفير والشجاعة والعمل الجماعي.
الوطن هو السلم الخماسي، والأهازيج التي تهدهد الأطفال وتزرع فيهم إيقاع السودان. هو قصة ود أم بعلو، والشيخ فرح وتكتوك، وود نفاش، وعمك تنقو، ومنقو زميري في الجنوب، والقولد والصديق.
هو النيل حين يجري، ومشروع الجزيرة حين يزدهر، وجبل مرة حين يبتسم، وتوتيل حين يتنفس، وكرري حين تشتعل الذاكرة. هو بعانخي الذي رفع تاج المروية على جبين التاريخ، وتهراقا الذي أنشد العدالة، ومهيرة بت عبود التي نادت بالرجال فأيقظت فيهم الكرامة، وود حبوبة، الثائر الفطري، وعلي عبد اللطيف، وعبد الفضيل الماظ الذي قاوم حتى آخر طلقة. هو الزبير باشا، وعلي دينار، سلطان فاشر السلطان، وكرومة، وسرور، والكابلي، ووردي، وحواء الطقطاقة، ومحمد الأمين، والطيب صالح، وموسم الهجرة إلى الشمال وعرس الزين.
الوطن هو همشكوريب، مقام الروح الصفية، وخلاوي الغبش، معقل القرآن والخشوع، وكدباس حيث التصوف التاريخي، والشيخ غلام الله بن عايد، وأرباب العقائد، وأب دنانه، والشيخ إسماعيل الولي، والشيخ قريب الله، وحمد النيل، وشرفي، والبرعي، وملك الدار، والشيخ حسن ود حسونة، أولئك الذين أضاءوا ليل الأمة بنور الروح واليقين. وهو المك نمر، وأب سن، وبابو نمر، والناظر دبكة ومادبو، ودينق مجوك، الذي رأى في أبيي جسرًا لا حدودًا بين المسيرية والدينكا.
وهو كلية غردون التي خرّجت الزعماء، وبخت الرضا معقل التعليم ومعلمة المعلمين، رفدت السودان بالمناهج كما يرفد النيل الأبيض السودان بالماء، وخورطقت، وحنتوب، ووادي سيدنا، ومدرسة الفاشر الثانوية، والمعهد العلمي، وجامعة أم درمان الإسلامية، وجامعة الخرطوم… كلها كانت مهادًا للنبوغ الوطني ومصانع للرجال.
وإننا، إذ نكتب اليوم عن الوطن، فلأننا نحبه. وإن بكينا على حاله، فلأننا نريده أفضل. فحب الأوطان لا يموت، لكنه يحتاج إلى من يسقيه بالكلمة الطيبة، والنية الصادقة، والعمل المخلص.
دكتور صلاح دعاك يكتب : الوطن ذلك الذي يسكننا قبل ان نسكنه
