د. عبد الناصر سلم حامد
باحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب – مدير برنامج شرق إفريقيا والسودان، مركز فوكس للبحوث (السويد)
بعد أكثر من عامين على اندلاع الحرب بين الجيش السوداني والقوات المتمردة، لم تعد “الرباعية الدولية” أداة لإنقاذ السودان، بل انعكاسًا لموازين قوى متعارضة بين واشنطن والقاهرة وأبوظبي والرياض. تحوّلت الوساطة إلى ساحة تنافس، وفقدت الرباعية قدرتها على التأثير أو حتى الحفاظ على حيادها.
اجتماع واشنطن المؤجل في 29 يوليو 2025 لم يكن حدثًا دبلوماسيًا عابرًا، بل لحظة كاشفة. أرادت الإمارات إدراج بند يقصي الجيش السوداني من المرحلة الانتقالية، بينما رفضت مصر ذلك بشكل قاطع، متمسكة بدور الجيش كمؤسسة ضامنة لوحدة الدولة. الولايات المتحدة انسحبت تكتيكيًا، والسعودية التزمت صمتًا محسوبًا. بدا أن الرباعية قد تحوّلت من وسيط إلى رباعي مصالح متضاربة.
تلعب مصر الدور الأساسي في دعم استقرار السودان، باعتباره امتدادًا مباشرًا لأمنها القومي المائي والحدودي، فيما تليها المملكة العربية السعودية التي تدرك أن تفكك السودان يعني تهديدًا مباشرًا لأمن البحر الأحمر والمنطقة ككل. لذا فإن مواقف هاتين الدولتين تتسم بثبات نسبي، مقارنةً بتذبذب بعض الأطراف الأخرى في الرباعية.
منذ خروج بريطانيا ودخول مصر إلى الرباعية، لم تعد التوازنات كما كانت. تشير تقارير متعددة إلى انخراط إماراتي غير مباشر في دعم القوات المتمردة عبر ليبيا وتشاد. القاهرة تنظر إلى الجيش السوداني باعتباره امتدادًا لعمقها الاستراتيجي، وتسعى لحماية ما تبقى من مؤسسات الدولة جنوب حدودها. أما واشنطن، فتبدو منقسمة بين الاعتبارات الأمنية ومخاوف الهيمنة الإقليمية. والسعودية التي كانت قد رعت مسار جدة، فقدت الزخم بعد فشل تلك المحادثات.
القوات المتمردة، التي انبثقت من رحم مليشيات الجنجويد، أصبحت اليوم قوة هجينة تجمع بين التمويل الإقليمي، والولاء الشخصي، والتكتيكات غير النظامية. هذا التكوين المعقد جعلها لاعبًا منفلتًا يتحدى الدولة والمجتمع والحدود.
في دارفور، وتحديدًا في الفاشر، كانت المجاعة وحدها كافية لتسقط أي قناع أخلاقي تبقّى للرباعية. المدينة محاصرة منذ أشهر من قبل القوات المتمردة، وشهادات الناجين تتحدث عن تجويع ممنهج وحرمان من الإمدادات.
بحسب تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، بتاريخ 18 يوليو 2025، أدى الحصار المفروض على الفاشر إلى انقطاع كامل للمساعدات الغذائية والطبية، مما يهدد حياة أكثر من 800,000 مدني، بينهم 300,000 طفل، معظمهم من النازحين داخل المدينة ومحيطها.
وفي تعليقها على الوضع في الفاشر، قالت كليمنتين نكويتا سلامي، منسقة الشؤون الإنسانية في السودان:
“الناس يموتون ببطء أمام أعيننا في الفاشر، ليس بسبب القنابل فقط، بل لأنهم يُمنعون من الوصول إلى الطعام والماء والدواء.”
الشارع السوداني لم يعد يرى في الرباعية وسيطًا محايدًا. القوى المدنية تتهمها بإدارة الأزمة لصالح ترتيبات إقليمية لا لصالح الشعب. أحد الناشطين من الفاشر قال: “نحن وحدنا، وهم يتفاوضون فوق دمائنا”.
كما في ليبيا واليمن، اصطدمت جهود الوساطة الدولية بجدار المصالح. فحين يتحوّل الوسيط إلى طرف، تفقد العملية السياسية قدرتها على إنتاج السلام.
كان مسار جدة هو التجسيد العملي الأول لمحاولة الرباعية توحيد مواقفها تجاه السودان، لكن الواقع كشف هشاشة التفاهمات بين أطراف الرباعية ذاتها. فقد رعت السعودية والولايات المتحدة عدة جولات تفاوضية بين الجيش والقوات المتمردة، لكنها أخفقت في فرض أي اتفاق ملزم أو دائم. كانت بنود وقف إطلاق النار تُوقّع ثم تنهار خلال ساعات، دون آلية مراقبة أو محاسبة. الإمارات غابت عن المشهد رغم دورها الخفي، ومصر بقيت متحفّظة على نتائج لا تُراعي رؤيتها الأمنية. وبذلك تحوّل مسار جدة من فرصة لبناء الثقة إلى منصة فشل متكرر تقوّض صدقية الرباعية.
منذ اندلاع الحرب، ظلّت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في موقع المراقب غير الفاعل. لم تُفعّل آليات الإنذار المبكر، ولا تم الضغط لفرض وقف إطلاق نار إنساني دائم. بعثة (يونيتامس) انسحبت وسط صمت دولي، بينما بقي الاتحاد الأفريقي رهين الحسابات الإقليمية والتجاذبات داخل مجلس السلم والأمن. لقد ساهم تهميش المؤسسات القارية والدولية في ترك الساحة لصراعات المحاور، وهو ما أضعف فرص الحل السوداني المتوازن.
في ظل فشل الرباعية، تبرز الحاجة لتأسيس مسار بديل يقوم على قيادة أفريقية نزيهة بدعم دولي غير منحاز. قد يكون من المجدي استحضار نموذج الوساطة الكينية بعد أزمة 2007، حين تم تحييد الأطراف الإقليمية المتورطة، وتقديم مبادرة تقودها شخصيات تحظى بالقبول الشعبي والأخلاقي. كما يمكن تفعيل دور (الإيغاد) بعد إعادة هيكلتها، وفتح المجال لمنظمات المجتمع المدني السوداني لتكون جزءًا من عملية السلام، لا مجرد جمهور يُستدعى للتصفيق بعد توقيع الاتفاقات.
يتجاوز الصراع في السودان حدوده الوطنية، ليهدد استقرار منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر. فانهيار الدولة في الخرطوم فتح المجال لتدفق السلاح عبر تشاد وليبيا، وخلق بيئة خصبة للمرتزقة والمليشيات العابرة للحدود. كما أن التوترات في بورتسودان تُثير قلقًا متصاعدًا لدى القوى الكبرى المعنية بالممرات البحرية، من بينها الصين وتركيا. إن فشل الرباعية لا يهدد السودان فقط، بل يعيد رسم خريطة التوازنات في شمال شرق إفريقيا، ويضعف أي نظام جماعي للأمن الإقليمي.
رغم عضويتها في الرباعية الدولية، تواجه الإمارات اتهامات موثقة بدعمها غير المباشر لقوات الدعم السريع، سواء عبر إمدادات سلاح قادمة من ليبيا، أو عبر تمويلات تمر عبر قنوات غير رسمية في أفريقيا الوسطى وتشاد. وتشير تقارير دولية، من بينها تحقيقات صحفية وشهادات استخباراتية، إلى استخدام طائرات شحن لنقل الأسلحة من شرق ليبيا إلى جنوب دارفور، وهي مناطق تخضع لنفوذ قوات موالية للإمارات. هذا الانخراط جعل من أبوظبي طرفًا غير محايد في الصراع، وأضعف صدقيتها كعضو في أي وساطة دولية.
في المقابل، تنفي الإمارات رسميًا هذه الاتهامات، مؤكدة التزامها بوحدة السودان. إلا أن الفجوة بين التصريحات والممارسات الميدانية تعزز الشكوك حول نواياها، وتُعقّد جهود الرباعية في لعب دور جاد ومتوازن في وقف الحرب.
ستفشل الرباعية ما لم تُعد تعريف دورها، وتوحّد أجندتها، وتُعيد الاعتبار للضحايا، وتتخلّص من ازدواجية المعايير. فالسودان لا يحتاج إلى مبادرات شكلية ولا إلى بيانات ناعمة، بل إلى تحالف دولي جاد يضع وحدة البلاد واستقرارها فوق رهانات النفوذ وحسابات المصالح