في عام 2015، استضافني الإعلامي اللامع عماد البشري عبر شاشة تلفزيون “الخضراء”، في واحدة من حلقاته الفكرية التي اشتهر بها، إذ عُرف بتناوله لموضوعات تمسّ جوهر الحياة والفكر. كان محور الحديث آنذاك يدور حول قضايا الهوية والمواطنة، وكان النقاش ثريًا ومفتوحًا، لا يزال أثره حيًّا في ذاكرتي. شاركنا تلك السهرة الفكرية الفنان الأصيل هاشم بابنوسة، الذي أضفى على الأجواء لمسة من عبق التراث بصوته وبلونيته المتفردة، فأطلق العنان لأغنياتٍ لا تزال أصداؤها ترنّ في أذني حتى اليوم. تطرّقنا، بعيدًا عن تعقيدات النخبة والمصطلحات النائية عن لغة الناس، إلى كيفية تناول هذه المفاهيم في الوعي الشعبي، وكانت فرصة مواتية لتقريب الفهم وتبسيط المصطلحات لعامة الناس، في زمن تكثر فيه التفسيرات وتتشابك التأويلات.
كثيرًا ما تُستخدم مصطلحات مثل الهُوية والمواطنة والوطنية في سياقات متباينة، وأحيانًا مُربكة، خاصة في فضاءات الجدل السياسي والاجتماعي. وهي مصطلحات على قدرٍ كبير من الأهمية والخطورة، إذ يُبنى عليها فهم الإنسان لذاته، وانتمائه، وحقوقه، وواجباته.
غير أن الخلط في التعريفات، وغياب الفهم الدقيق، هو ما يجعل هذه القضايا عرضة للاختطاف المعرفي من قبل من “يصطادون في الماء العكر”، ممن يوظفون المصطلحات لتكريس الانقسام أو التشويش، لا لبناء الفهم. لذلك فإن تبسيط هذه المفاهيم، وتقديمها للناس بلغتهم، بعيدًا عن التعقيد النخبوي، هو أحد مفاتيح الوعي الجماعي، الذي يحصّن المجتمعات من التزييف والتضليل.
فـالهُوية، ببساطة، هي ما يتشكّل عليه الإنسان من ثقافة ومعتقدات وموروثات، وتشمل اللغة والدين والتقاليد التي تُكوّن شخصيته وتُحدّد انتماءه الثقافي، وهي في أغلب الأحوال مكتسبة من بيئته.
أما المواطنة والوطنية، فهما مفهومان يرتبطان بـالوجود القانوني والسياسي للإنسان، وبـالوثائق الرسمية التي تثبت انتماءه لدولة أو كيان جغرافي محدد، وتُرتّب عليه حقوقًا وواجبات تجاه ذلك الوطن.
وإذا عدنا إلى حضارة السودان، منذ عهد كوش ومروي، نجد أن الانتماء لم يكن مشروطًا بالجغرافيا فقط، بل كان هناك توافق ثقافي واجتماعي عميق بين شعوب وادي النيل، وكان الرابط الأساس بينهم ليس الحدود، بل الوجدان والتاريخ المشترك.
ثم تتابعت المراحل، فظهرت ممالك الفونج وحكم العبدلاب، لتبدأ ملامح الشخصية السودانية في التبلور، وإن لم تتضح بعدُ ملامح “الدولة” بمعناها الحديث. وهذا الوضع الفريد، جعل من السودان مساحة تمتزج فيها العروبة والإفريقيانية، بشكل خاص ومتفرد، لم يتكرر في مناطق أخرى شهدت التداخل العرقي والثقافي ذاته.
فبينما دخل الإسلام إلى كثير من البلدان بالسيف والقوة، دخل إلى السودان بالاتفاقية، من خلال اتفاقية البقط التي سمحت للعرب بدخول مناطق الرعي، حاملين معهم رسالة الإسلام واللغة العربية. وهي الرواية الراجحة، رغم وجود روايات أخرى تتحدث عن وجود عربي قديم وأصيل في السودان، تؤكده شهادات عدد من العلماء، منهم البروفيسور عبدالله الطيب.
ولم يقتصر دخول العرب على جهة الشمال، بل دخلوا من جهة الغرب أيضًا، في هجرة عكسية أعقبت انهيار دولة الأندلس، تزامنًا مع قيام دولة الفونج، والتي اعتبرها بعض المؤرخين محاولة لتعويض ضياع الأندلس، خاصة في ظل الدعم الذي تلقته تلك الدولة من الخلافة الإسلامية في بغداد آنذاك.
إن نشأة دولة السودان، منذ بداياتها، كانت قائمة على التنوع وقبول الآخر. فقد تأسست دولة الفونج على تحالف فريد بين العنصر العربي ممثلًا في العبدلاب، والعنصر الإفريقي ممثلًا في الفونج، في تجربة نادرة للمشاركة والتكامل، لا تقوم على الإقصاء، بل على الاحترام المتبادل.
وليس كما يتصور البعض أن دولة الفونج كانت دولة مركزية صارمة، لها جيش موحّد ونظام جبايات مركزي، بل كانت أقرب ما تكون إلى دولة فيدرالية تقوم على احترام سلطة الأقاليم، وكان دور الملك أشبه بالدور الرمزي أو الشرفي في بعض مراحله.
وقد بدأ الحديث عن البعد الثقافي لهوية السودان في الأدبيات السودانية مع بروز تيارات فكرية رصينة. وكان أول من ابتدر هذا النقاش هو الملك حمزة بن الملك طمبل عام 1928، حين كتب كتابه “الأدب السوداني وما ينبغي أن يكون عليه”، ووجّه فيه الشعراء إلى التعبير عن البيئة المحلية السودانية، لا تقليد الشعر الجاهلي فقط.
وفي الثلاثينيات، نشطت جماعة النهضة وجماعة الفجر، التي دعت إلى أن يعكس الأدب السوداني البعدين العربي والإفريقي، وكان من أبرز الداعمين لهذا الاتجاه المفكر معاوية محمد نور، وعرفات محمد عبد الله.
وفي الخمسينيات، بزغ نجم الشاعر محمد المهدي المجذوب، الذي احتفى بـ”إنسان الجنوب”، وكتب قصائد عُرفت بـ”الجنوبيات”، تبعه شعراء مثل محي الدين فارس، وتاج السر الحسن، والجيلي عبد الرحمن، ومحمد عثمان كجراي. غير أن محمد الفيتوري كان الأبرز في هذا المسار، فكانت جلّ كتاباته تُنشد القارة السمراء، في دواوينه مثل أغاني إفريقيا واذكريني يا إفريقيا.
وفي السياق ذاته، كان جمال محمد أحمد أحد أبرز المفكرين الذين كتبوا عن ثقافة إفريقيا، فخلّف أكثر من ستة كتب في هذا المجال، وكان عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، إلى جانب الأديب علي المك الذي اهتم كثيرًا بالأدب الإفريقي.
وفي الستينيات، برزت مدرسة الغابة والصحراء، وهي من أهم المدارس الثقافية التي تناولت إشكال الهوية السودانية. فقد عبّرت “الغابة” عن الجانب الإفريقي، و”الصحراء” عن الجانب العربي، وظهر هذا التيار في مناخ سياسي عربي مشحون بالقومية بعد الاستقلال وكان من أبرز المشاركين فيه، محمد عبد الحي، الذي كتب العودة إلى سنار، ومصطفى سند في أصابع الشمع، ويوسف عبدابي في أبودليق، والنور عثمان أبكر في صحوة الكلمات المنسية، حيث استخدم مصطلح “الغابة والصحراء” لأول مرة.
النور عثمان أبكر، يُعد المؤسس الحقيقي لهذا التيار، وأثار جدلًا واسعًا بمقاله الشهير لستُ عربيًا المنشور عام 1962، بعد ثلاثة أشهر من نكسة 1967، ما جعل البعض يعتبره خيانة للهوية العربية. فكتب الشاعر صلاح أحمد إبراهيم ردًا قويًا عليه بمقاله بل نحن عرب العرب، وانتقده نقدًا لاذعًا. ورغم أن النور عثمان أبكر كان في ألمانيا حينها، إلا أن الانتقادات طالته، حتى من داخل المدرسة ذاتها، مثل محمد المكي إبراهيم.
البعض رأى أن المدرسة تمثل تيارًا علمانيًا يطمس الهوية العربية الإسلامية، بينما رأى آخرون، ومنهم بروفيسور عبد الله إبراهيم، أنها تمثل تحالفًا للهاربين من التناقضات الثقافية والدينية. وكان هناك تباين واضح بين أعضائها، بعضهم مال إلى الانتماء الإفريقي، مثل النور زايد، وبعضهم إلى الانتماء العربي، مثل محمد المكي إبراهيم، وبعضهم اتخذ موقفًا وسطيًا، مثل محمد عبد الحي ومصطفى سند.
وفي موازاة ذلك، ظهرت مدرسة الخرطوم التشكيلية بقيادة إبراهيم الصلحي، التي حاولت التعبير عن هذا التمازج الثقافي بشكل متسامح، يعزز من خصوصية الثقافة السودانية.
كما برزت مدرسة أبيداماك – وهو أحد آلهة مروي القديمة – بقيادة بروفيسور عبد الله جلاب وبروفيسور عبد الله علي إبراهيم، ضمن خطابات اليسار السوداني، سعيًا لتأصيل هوية سودانية خالصة.
وفي السبعينيات، برز تيار السودانوية، ومن أبرز رواده الدكتور الطيب زين العابدين، والسفير نور الدين ساتي، ودعا هذا التيار إلى الاحتفاء بالهوية السودانية من خلال التنوع الثقافي والتاريخي. وكان جون قرنق – قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان – من أبرز من تبنوا هذا الطرح في خطابه السياسي.
كل هذه الرحلة توضح أن قضية الهوية كانت حاضرة في كل العصور والحقب، تؤرّق المؤرخين والمثقفين والباحثين، وتبقى الحقيقة الجوهرية أن السوداني هو مزيج فريد من العروبة والإفريقية، تجلّى فيما يُعرف اليوم بـ”السودانوية” أو “الإنسان السوداني”، الذي يُعبّر عن هويته المتفردة بين شعوب العالم… الهوية التي الأصل فيها التنوع وقبول الآخر.
دكتور صلاح دعاك يكتب : الهوية والمواطنة والوطنية… بين المعنى والتأويل
