سراييفو الغرب الإفريقي: الفاشر تُعلّم المدن كيف تصمد»

إعداد: د. عبدالناصر سلم حامد – كبير الباحثين ومدير برنامج شرق إفريقيا والسودان في مركز فوكس للبحوث

وسط دخان القذائف وانقطاع الإمدادات ودوائر الخوف التي تحاصر الأحياء، تكتب الفاشر، عاصمة شمال دارفور، واحدةً من أعقد فصول الحرب الحضرية في السودان الحديث. منذ منتصف أبريل 2024، سعت قوات الدعم السريع إلى إسقاط خاصرة الإقليم الشمالية عبر حصار متعدد المحاور، لكن ما ظنّه العدو «معركة سريعة» تحوّل إلى طاحونة استنزافٍ طويلة ومعقدة.

لم تعد الفاشر اليوم مجرد مربع عمليات عسكري، بل تحوّلت أزقتها الضيقة إلى جزء من تكتيك الدفاع نفسه. وحدات الجيش والقوات المشتركة أعادت تشكيل خطوط النار عبر تمركز طبقي مرن: نقاط تمركز عند المداخل، استطلاع متنقل، قناصة فوق الأسطح، تبديل مواقع الرشاشات باستمرار، بينما ظل الأهالي هم «شبكة الإنذار» الأولى التي تسبق الأجهزة اللاسلكية. هذا التوظيف الدقيق للمساحات والموارد البشرية جعل المدينة حصنًا صعب المنال.

نفذت قوات الدعم السريع أكثر من 240 محاولة اقتحام، استخدمت فيها تكتيكات هجومية متنوعة: الهجمات الخاطفة، العمليات الليلية المباغتة، القصف المدفعي الكثيف، والاختراق بالمركبات المدرعة والمشاة، وحتى وحدات الكوماندوز الميدانية التي حاولت التسلل خلف خطوط الدفاع. أسفرت هذه الهجمات عن خسائر بشرية هائلة في صفوف المهاجمين، بينهم قيادات ميدانية بارزة مثل علي يعقوب وآخرين، مما أكد أن كسر الفاشر لن يكون سوى وهمٍ مكلف.

اعتمدت القوات المدافعة تكتيك الدفاع المتعمق (Defense in Depth) عبر إقامة حواجز إسمنتية ومتاريس، وتفخيخ الممرات، ونشر نقاط مراقبة ثابتة (Static Observation Posts) مع دوريات استطلاع متنقلة. كما استُخدمت الدرونز لرصد التحركات، وتوجيه المدفعية والقناصة بدقة. يشير بعض التحليلات الميدانية إلى أن هذه القدرات منحت الوحدات ميزة المبادرة في ساحات ضيقة مليئة بالمتغيرات.

لكن الركيزة الأهم ظلت الروح المعنوية. يقول أحد السكان: «حين نسمع الرصاص فوق أسطح منازلنا، نعلم أننا نحرس مدينتنا بأعيننا قبل البنادق.» بهذا الشعور تحوّل الأهالي إلى خط دفاع غير مرئي؛ أبلغوا عن تحركات العدو، أداروا الموارد بين الأحياء، وثبّتوا شريان المدينة رغم القصف والحصار. وقد ساعدت القرى المحيطة عبر ممرات سرية لتزويد المدينة بالإمدادات الأساسية، في وقت حاولت فيه قوات الدعم السريع خنق الفاشر لوجستيًا.

في جانب الإدارة الميدانية، استعانت بعض الوحدات بأساليب بدائية لحماية السكان مثل حفر الخنادق وإقامة ملاجئ مؤقتة، بينما لجأت وحدات شبابية إلى تطبيقات الخرائط والأقمار الصناعية لتحديد مواقع القناصة، وهي أساليب وثّقتها تقارير لمراكز أبحاث الحرب الحضرية مثل (Urban Warfare Studies). هكذا دمجت الفاشر بين تكتيكات «المدن الحصينة» وتقنيات الحرب الحديثة بأدوات محدودة وفعالية عالية.

تُشبَّه الفاشر بـ«سراييفو الغرب الإفريقي» إذ تلتقي قصتها مع تجارب حصارات كبرى كحصار سراييفو وغروزني وستالينغراد، وحاليًا تجارب حديثة مثل ماريوبول والموصل، حين يصبح التماسك الشعبي عامل ردع حقيقي أمام أي جيش متفوق عتادًا. فقد أكّدت المدينة أن الحروب الحديثة لم تعد تُحسم بالنار وحدها، بل بالإيمان الجمعي بجدوى المقاومة. تقول تحليلات استراتيجية إن تجربة الفاشر ستُدرّس في كيفية الحفاظ على «القدرة الدفاعية المجتمعية» تحت ظروف حصار معقدة وطويلة.

إن الأهمية الجغرافية للفاشر ليست محلية فقط؛ فهي بوابة لشمال دارفور وأحد أكبر مراكز الثقل في الغرب السوداني. سقوطها كان سيعني توسيع ممرات الدعم السريع غربًا وشلّ حركة الجيش في مساحات شاسعة من دارفور الكبرى. لهذا تحوّل الدفاع عنها إلى رمز يتجاوز قيمته العسكرية ليصبح دفاعًا عن وحدة دارفور وبوابة امتدادها إلى العمق النيلي. لذلك فإن رهان القوات المشتركة على «الاحتواء» كان رهانًا مصيريًا أدركه المقاتلون جيدًا.

إن صمود الفاشر أبرز ثلاثة دروس واضحة لكل مدينة قد تواجه حصارًا في المستقبل: ضرورة وجود تكتيك عسكري مرن قادر على امتصاص الهجمات وتعديل الخطط بسرعة، وشبكة إمداد بديلة أو خطوط سرية لكسر «عقدة الاختناق»، وحاضنة نفسية قوية تدير «الحرب النفسية» وتحمي الجبهة الداخلية من التصدع. هذه المعادلة البسيطة–المعقدة هي سرّ المدن التي تتجاوز المحنة بأقل كلفة إنسانية ممكنة.

ختامًا، لم تعد الفاشر اليوم مجرد قصة مدينة تقاتل، بل أصبحت مختبرًا حيًا لحروب المدن في إفريقيا، ورسالة للعالم أن إرادة الناس ستظل دومًا أكبر من أي حصار. من الفاشر إلى كل مدينة تُحاصر في زمن الاضطرابات، يظل الدرس واحدًا: إن امتلاك الأرض يبدأ من امتلاك العقول والقلوب.

ملاحظة:
هذا المقال يُمثّل خلاصة بحث تحليلي موسّع حول تكتيكات الجيش والقوات المشتركة في معركة الفاشر، ويعتمد على متابعة ميدانية وشهادات محلية، بهدف توثيق الدروس المستفادة من تجربة «الحرب الحضرية» في شمال دارفور

Exit mobile version